في رقم قياسي من عدد أيام الإضراب الذي خاضه الأساتذة، ومعه هدر أزيد من شهرين من أيام التحصيل والتعليم، يعود سؤال التعليم ليُطرح بقوة على المغاربة جميعا ودون استثناء، عن أي تعليم نريد لمجتمعنا ولأجيالنا المقبلة؟
وبغض النظر عن أن تأييدنا للأساتذة في موضوع مطالبهم الراهنة، هو تأييد مبدئي انطلاقا من الوضعية الاجتماعية الكئيبة والمزرية لأوضاعهم منذ فجر الاستقلال، وذلك بسبب السياسة العرجاء المتبعة من طرف الدولة في القطاع منذ ذاك العهد، فإن هذا لا يعني مع ذلك بأن الأساتذة، هم ملائكة لا يأتيهم الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، وأن الحكومة الحالية -في المقابل- هي “الشيطان” المارد الذي لا يريد لملفهم أن يجد طريقا إلى الحل!
فالمسؤولية متقاسمة ومشتركة، على الأقل، من حيث الالتزام بالواجب الوطني، لأن الوضع الخطير الذي وصل إليه مستوى الاحتقان والإضراب بالمدارس العمومية يتطلب من الجميع التحلي بقدر كبير من المسؤولية. وأن على الأساتذة والأستاذات الذين ما يزالون يقاطعون الحجرات الدراسية أن يلعنوا الشيطان ويعودوا إلى الفصول الدراسة لتدارك ما فات من دروس، مع الإبقاء على صيغة نضالية معينة تفيد استمرارهم في الاحتجاج، من قبيل حمل شارات سوداء أو حمراء -مثلا- والتلويح باستئناف الإضراب عن العمل لفترات محددة مع نهاية الموسم الدراسي أو بداية الموسم المقبل، في مقابل ذلك على الحكومة التحلي بروح اللباقة والتخلي عن منطق التهديد والعقاب الذي شرعت في تنفيذه بحر الأسبوع الماضي، بالاقتطاع أو وقف الأجور وتوقيف الأساتذة المضربين بمبرر الانقطاع عن العمل!!
لكن مهما يكن من تحميل للمسؤولية، لهذا الطرف أو ذاك، فإن الذي عليه تحمل العبء الأكبر من هذه المسؤولية، هو الحكومة، التي أبانت عن قصور تواصلي وتدبيري للأزمة لا يصدر إلا عن تكنوقراط متحجري العقليات، أو عن مسؤولين هواة ليسوا على قدر تولي مهمة تدبير ملف حيوي وخطير مثل ملف التعليم…
إن الأزمة غير المسبوقة التي وصل إليها التعليم العمومي ببلادنا، والتي تجلت بالخصوص في إضراب طويل ومديد، يكاد يكون هو الأول من نوعه من حيث طول الزمن، ليس فقط على صعيد بلادنا ولكن حتى على مستوى العالم، هي فقط مؤشر وكذا ناقوس خطر لتنبيه الدولة المغربية إلى أن قطاع التعليم لابد له من إصلاح جذري، بعيدا عن “لبريكولاج”، الذي تكون تكلفته المادية باهظة وتكون نتائجه مجهرية أو صِفرية، ومن دون حسيب أو رقيب، تماما كما حدث مع كل من “الميثاق الوطني” للتعليم، وبعده “البرنامج الاستعجالي”، وغيرها من البرامج، بما فيها البرنامج الحالي الذي أراد ويريد منظّروه أن يكون أحد رافعات النموذج التنموي الجديد الذي يريد به ملك البلاد تدارك فشل البرنامج التنموي السابق، الذي أكد فشله بعد نحو عقدين من الزمن من العمل به!
ولأن الأزمة التعليمية عميقة جدا وتحتاج للتغلب على تبعاتها المخيمة على الأجواء في زمن الإضراب الحالي وتطويقها، إلى إرادة سياسية من الدولة ومن الحكومة ومن المهنيين، على حد سواء، كما تحتاج أكثر إلى الوعي بالواجب الوطني، قبل البحث عن الحقوق المفترضة، فإن على المسؤولين الحاليين الذين يديرون المرحلة، وعلى الأساتذة الذين يشهدون أوج هذه الأزمة، أن يكون لهم الاستعداد والقابلية للمشاركة في التأسيس لمرحلة ما بعد الأزمة المستشرية..
لذلك فإن الكياسة والحكمة تقتضي -في حال استمرار الإضراب- أن تقوم الحكومة بخطوة عملية جبارة في اتجاه تحريك المياه الراكدة التي تسببت فيها رعونة مسؤوليها وسذاجتهم، وليس من مثل هذه الخطوة إلا إعفاء الوزير المكلف بالقطاع، ثم دعوة كل ألوان الطيف التعليمي لمائدة الحوار، على قاعدة ما حُقق لحد الآن من مطالب، والتحلي بالليونة اللازمة، بما يقتضي دعوة حتى التمثيليات غير المؤسساتية (التنسيقيات)، التي وحدها إقالة أو استقالة الوزير يمكنها أن تحدث رجة في موقفها إزاء المسؤولين ورجة في حمولتها النفسية، كافية لتعيد الأساتذة النشطين في هذه التنسيقيات إلى الحجرات الدراسية..