في محاولة لإعادة بريق مفقود للحزبين اليساريين العريقين “الاتحاد الاشتراكي” و”التقدم والاشتراكية”، اجتمع زعيمي الحزبين إدريس لشكر ومحمد نبيل بن عبدالله وأصدرا ما سماها الحزبان “وثيقة التصريح السياسي المشترك”، ردا على ما زعمه “لشكر” أنه “تغوّلٌ ثلاثي”، في إشارة إلى الائتلاف الحكومي الثلاثي، وكـ”خطوة للتنسيق بين الحزبين مفتوحة على الحاضر والمستقبل وكل القوى التي تريد أن تقاسم الحزبين نفس الأفكار”، على حد ما صرح به بنعبدالله.
تحرّك “الرّفاق” الذين قسّمتهم الحقائب الوزارية منذ أزيد من عقد من الزمن، وتحديدا منذ حكومة “الربيع العربي” التي أعقبت الحراك الشعبي والدستور الجديد في 2011، وجعلتهم في معسكرين نقيضين تماما، بل حتى متناكفين ومتخاصمين، يأتي في سياق شبه جمود سياسي تعانيه الساحة الوطنية المغربية، كعنوان لمرحلة ربما بدأت منذ انتخابات 2016، في ذاك “البلوكاج” الشهير، عندما تحالف هذا “الاتحاد الاشتراكي”، الحزب اليساري “الوطني” -يا حسرة- مع الحزبين الإداريين الأكثر حضورا في المشهد الحزبي، ألا وهما “التجمع الوطني للأحرار” و”الأصالة والمعاصرة”، لإفشال زعيم حزب “العدالة والتنمية” (الإسلامي) عبدالإله بنكيران، وقد كان حزبه حقق نتيجة انتخابية كاسحة للتو وللمرة الثانية على التوالي، في تشكيل الحكومة، وهو ما يبدو قد نجح فيه “التحالف الانقلابي”، في مشهد سريالي ربما لم تعرفه الحياة السياسية المغربية المعاصرة، من قبل، لاسيما بعدما انتصر الحزب اليساري الآخر بل قل “الشيوعي” (حزب الكتاب) للإسلاميين ووضع يده في يدهم وتحالف معهم ودخل معهم منذئذ في الحكومة إلى غاية خروجهم منها على إثر سقوطهم المدوي في انتخابات 2021..
الحاصول هاد التخلاط ديال رجل بكراع إلى كان تيعني شي حاجة فهو تيعني عند المتشائمين الإفلاس المدوي للأحزاب السياسية، التي لم يعد يميزها عن بعضها البعض لا مبادئ ولا إيديولوجيات، وإنما المتحكم في اصطفافاتها هو منطق الربح والخسارة للحقائب والمسؤوليات العامة وما يجنيه الحزب من ريع سياسي ومغانم حتى غير المباح منها!
ولكن حتى بالنسبة للجانب الآخر من المواطنين وأولهم المتابعين للشأن السياسي الذين ما فتئوا يحملون قدرا من التفاؤل بإمكانية تصحيح اختلالات المشهد الحزبي والسياسي ببلادنا، والعودة إلى الماضي القريب والأقرب إلى أيامنا هاته، وهي مرحلة التسعينيات على الأقل، حينما كانت المعارضة معارضة والأغلبية الحكومية أغلبية، وكلٌّ معروف بلونه الحزبي وهويته السياسية؛ فإن الشك يسيطر على نفوس هؤلاء المتفائلين بإمكانية إعادة بريق السياسة وتوهجها، كما كانت عليه سابقا رغم كل النقائص و”التغول السلطوي” وقتها، ويقدم هؤلاء كمبرر أو دليل على تعقّد المشهد، بأن المتحكمين في اللعبة برُمتها، وهم الجهة المعنية في مؤسسات صناعة القرار، لا يريدون العودة بعقارب الساعة إلى الوراء، وأن هذا المشهد الضبابي المفتقد لليقين الحزبي، هو ما يناسب المرحلة وربما حتى المراحل مقبلة في المدى المتوسط على الأقل..
ويبدو أن ما يزيد الطين بلة واللي تيخلي لكثير من الناس يكفرو بشي حاجة سميتها السياسة في بلادنا، وتيكثَر العزوف عن السياسة والعمل السياسي من طرف المواطنين، وفق الكثير من الدراسات، هو هذا التهافت الجارف للأحزاب على كسب رضا الذين بيدهم الأمر من قبل ومن بعد من صناع القرار، إلى درجة أن حتى الأحزاب اللي سميتها “الوطنية” للأسف ولات تتخاف تبقى في المعارضة، بالرغم من أن الدستور ديال 2011 عطا واحد الإطار وقيمة للمعارضة، باعتبارها شريك ضروري وأساسي في تنزيل السياسات العمومية، وخول لها مكانة اعتبارية محترمة في الجهاز التشريعي..
وهذا التهافت على مغانم “الحُكُم” من طرف “الأحزاب الوطنية”، واللي خلّى “أب الأحزاب وأمها”، حزب “الاستقلال” يشكل الإئتلاف الحكومي الحالي رفقة حزبي الإدارة الأولين والأكبرين والقويين، وينسلخ عن رفيقي النضال الوطني التاريخي (الكتاب والوردة)، بالإضافة إلى السقوط المدوي لحزب “إسلاميي” “بيجيدي” اللي حكم لمغاربة واحد العقد من الزمن دون أن يحقق للمغاربة ما وعدهم به من وعود معسولة، كلها عوامل أصابت التنظيم الحزبي بما يشبه العقم في ابتكار آليات جذب الناس إلى السياسة، بل جعلت حتى إمكانية القدرة على خلق نقاش وطني يلقى التجاوب مع الرأي العام، تكاد تكون منعدمة؛ ورأينا كيف أن اجتماع حزبي “الكتاب والوردة” بمقر الأخير في شارع “العرعار” بحي الرياض الراقي وسط العاصمة، قصد إصدار “خريطة طريق” لعلها تنقذ ما يمكن إنقاذه، كان اجتماعا باهتا لا يثير شهية المواطنين، وحضره فقط الزعيمان والمقربون من الزعيمين الذين جميعهم يتحينون فقط فرصة العودة إلى رغد وريع الحقائب الوزارية، تحت يافطة “العمل المشترك” ضد “التغول” و”الإصلاح”، بينما واقع الأمر المرير يقول إن مَن كان أحد أسباب الفشل والنكوص لا يمكن أبدا أن يكون جزءا من الإصلاح والإنقاذ!