في الذكرى الأربعينية لرحيل محمد بنسعيد آيت يدر اخترنا في “نيشان” أن نقدم مقتطفات هامة من مذكراته التي صدرت عن مركز محمد بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات تحت عنوان “هكذا تكلم محمد بنسعيد” والذي القيادي اليساري والكاتب عبد الرحمان زكري، باعتبار الأحداث الهامة التي عايشها الراحل بنسعيد الذي عاشر ثلاثة ملوك، وكان في قلب الأحداث اللاهبة منذ الخمسينيات من القرن الماضي حتى وفاته،لعب دورا أساسيا في خلايا المقاومة وجيش التحرير، انخرط في حزب الاستقلال باكرا، وكان من أقطاب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حكم عليه بالإعدام غيابيا وتعرض لأكثر من محاولة تصفية واغتيال، حتى تأسيسه لمنظمة 23 مارس وبعدها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وصولا إلى الحزب الاشتراكي الموحد.. في مذكرات نصادف أحداثا ووقائع مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر باستعادتها ومحاولة تجديد قراءتها فهم لواقعنا السياسي ولمسار أمة تطمح لحقها في الكرامة والتقدم والتنمية.
الحلقة الثامنة عشرة:
مغربية الصحراء خط أحمر بالنسبة لي.. وهكذا استقطب محمد الوالي وخلقت بوليساريو
مشكل الصحراء المغربية في أواسط السبعينات، وأظن ذلك كان عام 1974 زارني محمد الوالي في بيتي بباريس. والوالي سيصبح فيما بعد من قياديي جبهة البوليساريو. دار النقاش بيني وبينه حول مشكل الصحراء المغربية وضرورة إيجاد مخرج لها. ولم ينحرف حوارنا عن مدار مغربية الصحراء لأنه في ذلك الوقت لم يكن مشكل الانفصال مطروحا بأي حال من الأحوال. أبديت له استعدادنا لمساعدته ورفاقه بالوسائل الضرورية من أجل تحرير الصحراء من يد الإسبان وإلحاقها بأرض الوطن. وكان هو يطمح إلى فعل شيء ومستعدا للوقوف إلى جانب الجيش الملكي إذا ما رأى النظام المغربي الدخول مع اسبانيا في مواجهة مباشرة لتحرير الصحراء المغربية وذلك بتعبئة شباب الأقاليم الجنوبية. اتفقنا على معاودة اللقاء وتعميق النقاش حول السبل الكفيلة بتحرير الصحراء. لكنني لم أره مرة أخرى منذ تلك اللحظة. وهو نفسه منذ أن دخل إلى الجزائر لم يعد بإمكانه مغادرتها بسبب منع من الجزائريين. وقد لعب الفقيه البصري دورا سلبيا في هذا الاتجاه إذ ساهم في التغرير بالشباب الصحراوي الذي استقطبه النظام الجزائري لتبني أطروحته. وكان يهدف من وراء ذلك إلى ضرب نظام الحسن الثاني بهؤلاء الشباب.
لم تكن الجزائر وحدها تدعمهم، فنظام معمر القدافي قدم لهم من الناحية المادية واللوجستيكية دعما أكبر. وكانت تجمع الفقيه البصري بحاكم ليبيا علاقات متينة على اعتبار أن كلا منهما كان يرى في نفسه وفي صاحبه أكبر ثوار العالم. كان محمد الوالي من أبناء الصحراء المغربية الذين استقدمتهم صغارا عام 1957 إلى الدار البيضاء للدراسة. وسعيت أنا وحسن لعرج والفقيه البصري في تلك الآونة لدى بنيس مدير المدرسة المحمدية ليقبلهم ويتكفل بهم. واتصلنا أيضا من أجل إعالتهم بعامل الدار البيضاء في ذلك الوقت الحاج أحمد بركاش لتساهم العمالة في احتضانهم وتمويل نفقاتهم. وقد أسكناهم في دار التوزاني بعين الشق، وتدرجوا في دراستهم، فمنهم من توقف ومنهم من بلغوا الجامعة وانخرطوا في الحياة السياسية وانضموا إما إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أو حزب التقدم والاشتراكية. كما كان منهم من انتظم في أسلاك الدولة المغربية. وفي عام 1970/1969 ستقوم حركة احتجاجية بمدينة العيون بتحريض القبائل الصحراوية يقودها أحد هؤلاء الطلبة من الشباب الصحراوي يدعى بصير. وكان من قبل قد أنشأ جريدة بتادلة يدافع فيها عن الصحراء المغربية. وقد تصادفت حركته مع اختطاف النظام المغربي لكل من سعيد بونعيلات وأحمد بن جلون من مدريد الأمر الذي دفع السلطات الاسبانية، وكرد فعل منها، إلى قمع هذه الحركة الاحتجاجية بعنف كبير واختطفت متزعم الحركة بصير الذي لم يظهر له أثر بعدها. والراجح أن يكون الأسبان قد أقدموا على إعدامه.
كانت فكرة تحرير الصحراء إذن حاضرة بقوة في تفكير هؤلاء الطلبة الصحراويين وقاموا بشأنها باتصالات مع زعماء الأحزاب السياسية التقدمية المغربية لكن الوضع الذي كانت عليه هذه الأحزاب في تلك الفترة وعدم قدرتها على إتيان أي حراك من أي نوع جعلها لا تستجيب لهؤلاء الشباب.
كان المغرب حينها يعيش تحت نير سنوات الرصاص. ولا أحد من الزعماء السياسيين كان يستطيع أن يرفع رأسه. الكل خائف لذلك بدا مستحيلا أن يفكر أحد في دعم الطلبة الصحراويين الذين كانوا يريدون حمل السلاح في الصحراء لتحريرها من الغاصب الاسباني. ولم يبق أمامهم إلا التعويل على أنفسهم فقاموا بتظاهرة في طانطان قابلها النظام المغربي بقمع شرس تحت إمرة القائد الممتاز للمنطقة الذي جاءه الأمر بذلك مباشرة من أوفقير وتم اعتقال عدد من المتظاهرين فيما فر آخرون إلى موريتانيا وتيندوف وكان من جملة الهاربين محمد الوالي. حاولت الجزائر الاستثمار في ذلك الوضع لصالحها بافتعال مشكل تستغل فيه الشباب الصحراوي؛ إذ كانت لها حسابات اقتصادية وسياسية كتصدير حديد غار جبيلات بتيندوف الذي يمر عبر وهران وتيندوف، ويرفع كثيرا كلفة نقله بسبب طول المسافة بين هذين الموقعين، والتي تتجاوز 1300 كيلومترا، فيما لايفصل تيندوف عن المحيط الأطلسي، مرورا عبر الصحراء المغربية سوى 200 كيلومترا. ولذلك سعى الجزائريون إلى إيجاد ممر إلى الواجهة الأطلسية. وليس أفضل لهم من اقتطاع جزء من صحراء المغرب كما فعلوا بتيندوف، لكن هذه المرة عبر خلق أطروحة الانفصال واختلاق كيان جديد لا حول له ولا قوة يأتمر بأوامرهم وينفذ أجندتهم. ولم تكن أطماع الحاكمين في الجزائر تقف عند هذا الحد، بل كانت تطيل عنقها نحو فوسفاط المغرب؛ فقد حصل تواطؤ مع الأسبان يقضي بدعم أطروحة الانفصال على أن يتم استغلال الفوسفاط بشكل مشترك بينهما ولمدة خمسين عاما بعد أن تقوم “الحكومة الصحراوية”. خلف هذه المخططات كان يقف وزير الاقتصاد الجزائري آنذاك عبد السلام بلعيد الذي كان يريد، هو وبومدين، أن يجعلا من الجزائر “يابان إفريقيا”. وكانت هذه من أوهام الحاكمين في الجزائر الذين كانوا يرون أن المغرب من الضعف إلى الدرجة التي تسمح لهم بتحقيق هذه المطامع.
وللأسف الشديد غلب على العلاقات بين البلدين التنابذ ومنطق التآمر مع المستعمرين بدل التعاون المشترك وتكوين جبهة اقتصادية قوية يتم في إطارها الاستغلال المشترك لثروات البلدين من بترول وغاز وحديد وفوسفاط وغيرها. وكانت الكلمة في الأخير للتفكير الأناني الذي غذاه الحكم الفردي هنا وهناك فجعل كل طرف يسابق الزمن للاستفراد بزعامة موهومة لن تجر عليهم جميعا وعلى شعوبهم سوى الكوارث.