كم عدد المغاربة الذين يجب أن تُزهق أرواحهم في الكوارث، والفواجع، والمآسي التي صارت تتوالى تباعاً كي نسمع عن إعفاءات، وإقالات، وفتح تحقيقات وأبحاث قضائية جدية تفضي لمحاسبة المتورطين بتهم التقصير والإهمال؟
الفاجعة الجديدة التي أسفرت عن وفاة 21 شخصاً بقسم مستعجلات بدون مكيفات، في بلد يستعد لاحتضان نهائيات كأس العالم، دليل آخر على أن السياسات العمومية مصممة على الاهتمام بالحجر على حساب البشر في زمن الدولة الاجتماعية….
السي بنطالب، وزير الصحة، اختار أن يستعين بـ”القوالب” لمسح يده من التقصير الكارثي، والمسؤولية السياسية التابثة، وأصدر لنا بياناً إنشائياً طويلاً حول خطر الحرارة، قبل أن يليه بلاغ المديرية الجهوية الذي ألصق للحرارة تهمة التسبب في موت 17 مغربياً داخل “فران” مشتعل يحمل اسم مستشفى، دون أن يُغفل البلاغ الإشارة إلى أن 4 مواطنين آخرين وصلوا أمواتاً أيضاً لتثبيت التهمة على “الحرارة”.
وزير “قلة الصحة” لم يُبادر للحديث عن فتح تحقيق داخلي، ولم يكشف لنا كيف أن قسم المستعجلات لا يتوفر على مكيف هواء في قطاع تصرف عليه الملايير. كما لم يخرج ليوضح كيف أن 21 مغربياً ماتوا في يوم واحد، وفي نفس المستشفى بداعي الحرارة، رغم أن مدنا أخرى من المغرب غير النافع تجاوزت فيها الحرارة 48 درجة.
نحن أمام فواجع تحصد أرواح البسطاء بشكل عبثي، وتؤكد من جديد أن أرواح المغاربة صارت رخيصة، ولا تستدعي فتح تحقيق لتحديد المسؤوليات وتفعيل المحاسبة، وهي الآلية التي اتضح أنها ليست معطوبة بقدر ما هي معطلة عمداً حتى نستمر في إعادة إنتاج نفس هذا الوضع الذي ضاق به الجميع.
لقد انتقد المغاربة التعامل البارد للحكومة والمسؤولين مع عدد من المآسي والفواجع، واليوم نفس المشهد يتكرر، بداية من رئيس الحكومة الذي لم يكلف نفسه تدوينة عزاء، وصولاً إلى وزير الصحة الذي يعتبر المغاربة أغبياء.
من تسبب في وفاة هؤلاء الضحايا داخل مستشفى تحول إلى فرن هو ذاته من يتحمل مسؤولية موت الطفلة “ايديا” في سنة 2017، والتي رحلت في سنتها الثانية بعد أن تقاذفتها عدد من المستشفيات الفارغة من أي خدمات حقيقية، ليقطع جسدها الصغير مئات الكيلومترات تحملت فيها الكثير من الألم قبل أن تسلم الروح بمدينة فاس.
“ايديا” التي رأت النور في قرية صغيرة ضمن منطقة قاسية ومنسية بتنغير، لم تكن تعلم أن شغبها الطفولي سيجعلها تقع من على مرتفع، لتصاب بنزيف فشل الأطباء في تشخيصه بكل من مستشفى تنغير والرشيدية، ليحكم عليها بالموت بعد وصولها بلحظات إلى مستشفى مدينة فاس، ليسارع بعدها المشرفون على قطاع الصحة إلى التنصل من أي مسؤولية.
قبل “ايديا”، عاينا كيف مات طفل في حضن أمه بمستشفى بالبيضاء، وكيف لقيت طفلة صغيرة حتفها لأن مصل لسعات العقارب لم يكن موجوداً، كما عاينا مشاهد أخرى لمواطنين تنهشهم الديدان أو تسيل دماؤهم في المستشفيات دون أن يجدوا من يسعفهم، ودون أن تحرك هذه الصور أي مشاعر لدى من يسيرون القطاع أو من يدبرون الشأن العام.
ليس من المعقول أن تقع فواجع بالجملة، وأن تزهق أرواح وتقع مصائب دون أن يكون هناك أي مسؤول، لأن ما نحصل عليه في النهاية هو بلاغات “باردة” تشبه شهادة وفاة تبرئ فيها الدولة أو الإدارة ذمتها. بل وفي كثير من الأحيان تُنسب التهمة إلى الضحايا لأن الدولة تعلم أن الأموات لا يملكون حق الدفاع عن أنفسهم.
واقع صحة المغاربة في زمن الدولة الاجتماعية ليس بحاجة إلى من يشخصه، ولا أحد يستطيع أن يكذب على المغاربة ويزيف وضع المستشفيات العمومية التي كشفت عدد من التقارير أن نسبة كبيرة منها لا تصلح، ويجب إغلاقها.
المشاريع الكبرى التي تلتهم عشرات الملايير يجب أن توجه لخدمة المواطنين، وأن تكون قريبة منهم بالاستجابة لأولوياتهم الملحة، لأن الاهتمام بالفرد هو أساس الإحساس بالمواطنة والانتماء للمجتمع، بدلاً من التمادي في الإهمال واللامبالاة وتكريس “الحكرة” في مختلف الخدمات التي تقدمها الإدارات المغربية، وخاصة في قطاع الصحة، فأهم شرطين لبناء مجتمع سليم هما الصحة والتعليم، وهما قطاعان انخرطا ومنذ عقود في علاقة جد متوترة مع المغاربة، علاقة يبدو أنها ستدوم إلى إشعار آخر.
كنا نتوقع أن سيل هذه الفواجع كافٍ لخلق نقاش عمومي كفيل بطرد سحب اليأس الذي تغول في نفوس الكثيرين ممن أيقنوا أن الوطن تنكر لهم.
هؤلاء من حقهم أن يفقدوا الأمل في حدوث تغيير ينعكس على واقع الناس في بلد قال البنك الدولي إنه متخلف عن أوروبا بأربعة قرون، فيما لا يبعد عنها سوى بأربعة عشرة كيلومتراً.