كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
انفصاليو الداخل.. شجرة تصور كغابة (1)
سيكون للنزيف الجارف والمتواصل الذي عرفته جبهة بوليساريو، عبر عودة أعداد من الرواد المؤسسين وكبار شيوخ القبائل، بمن فيهم أولئك الذين كانوا يمثلونها في أعمال لجنة تحديد الهوية، إضافة إلى الأطر والقيادات العسكرية، أثرا بالغا في دفعها إلى استبدال مجالات المواجهة وأساليبها، فقد أحست بأن مبررات وجودها انتفت، على خلفية أن مشكلتها أصبحت مع نفسها وليس مع الآخرين.. سيما وأن ذلك النزوح الذي وجه المزيد من الضربات القاضية للفكرة المحورية التي تأسست من أجلها، أي ربط الصحراء بأجندة المصالح الجزائرية.. كان يتم من طرف واحد، أي من مخيمات تيندوف في اتجاه المغرب، بما يعنيه ذلك من انهيار الطروحات التي كانت تستند عليها.
سيجري في غضون هذا المشهد، الذي يشبه الساعات الأخيرة لغرق سفينة تتقاذفها الأمواج والرياح، التفكير في خطة مضادة لإيقاف النزيف الداخلي على مستويين:
الأول: تشديد الرقابة وإحصاء الأنفاس داخل المخيمات، وإشاعة الرعب والتنكيل بالأصوات الرافضة لاستمرار الخناق، وهذه مهمة تولتها مصالح الجيش والاستخبارات الجزائرية، ذات التاريخ غير المشرف في انتهاكات حقوق الإنسان.
الثاني: محاولة خلق متنفس خارج المخيمات للإيحاء بأن مصير العائدين إلى المغرب لا يكون مفروشا بالورود، وأن بديل المخيمات يوجد بصورة أو بأخرى في عمق الأقاليم الصحراوية وتحديدا، من خلال بعض العناصر التي أصبح في إمكانها أن تجاهر بالانتساب إلى جبهة بوليساريو، وعلى رغم إدراك أن الأمر لا يعدو أن يكون مسبارا، بالنظر إلى بعض التجارب المحدودة التي همت بضعة شباب صحراويين غادروا المغرب للالتحاق بالمخيمات، ثم سرعان ما أصيبوا بخيبة أمل كبيرة، دبروا بعدها طرق إفلاتهم من المخيمات، فان الأهم بالنسبة لبوليساريو، لا يهم الأعداد أو مستويات تأثير مثل هذه العناصر، وإنما الأثر النفسي الذي تصورت أن في إمكانه استخدامه لهذا الهدف أو ذاك
ستتمحور الفكرة الأساسية لهذه العملية على إبراز أن هناك تململا وعدم رضا حيال أوضاع الداخل، وسيكون لافتا في منهجية الاستقطاب هذه أنها وضعت جانبا معايير الانتساب القبلي والتأثير المعنوي والنفوذ السياسي، لأن ما يهم أن ترتفع أصوات من داخل الأقاليم الصحراوية تنوب عن الجبهة في ما استعصى عليها القيام به.
كانت الخطة تندرج في سياق ردود أفعال، بدت من الوهلة الأولى كمحاولة للتغطية على الأزمة التي أفقدت الجبهة منطق التماسك، وأبانت أنها غير قادرة على إدارة خلافاتها الداخلية، فبالأحرى أن تقود “دولة “بلا أدنى مقومات أو خصائص أو تاريخ.. مجرد فكرة حمقاء، لكنها تطورت لتصبح واجهة دعائية متسترة، تتحرك على قياس الخلفيات السياسية، غير البعيدة عن المربع الذي يرسمه اللاعب الجزائري الأصلي.
لم يحدث في تجارب أي حركة تزعم أنها تمثل تيارا ما، أن وقعت انشقاقات مفصلية، كما في وضعية بوليساريو.. ففي العادة تكون الانشقاقات نتاج خلافات في الرؤى أو صراعات على مراكز نفوذ قيادية، لكنها تبقى تحت مظلة الالتزام بالخيارات المبدئية.. كما يقع داخل أي حركة، تستمد شرعيتها من تلك الخيارات التي لا تكون موضوع جدل، إلا في الأساليب وظروف العمل، أما في حالة بوليساريو، ولأنها لم تعد حركة تحرير، فإن الانشقاقات طالت الأسس التي بنيت عليها الجبهة.. فقد اقترنت بعودة الوعي وهمت الوجود غير المبرر لاستمرار بوليساريو.