عدد المتسولين في شوارع المملكة أكبر عدد الناس العاديين. بالإضافة إلى المغلوب على أمرهم ممن اضطرتهم الظروف إلى مدّ اليد، والنصابين الذين وجدوا الوسيلة المُثلى لربح المال السهل والعملة الصعبة، هناك الأجانب الذين تقطعت بهم السبل، بسبب الحروب والمآسي، ووجدوا أنفسهم بلا مال ولا عمل ولا عائلة، في بلاد بعيدة، وهاته الفئة طبعا أجدر بالتعاطف والتضامن والمساعدة.
بمجرد ما تخرج من بيتك، تكتشف أن أكبر “نشاط تجاري” في البلاد هو التسول. في كل مكان يخرج لك من يريد نقودا مقابل دعوات مشكوك في أمرها، لا تصل غالبا، بين من يمد نحوك يده المشققة، ومن يمد لك شهادات الطبيب وقائمة الأدوية أو علبة كلينكس أو طفلا صغيرا أو رِجْلا مبتورة… ولسان حال معظم المغاربة يردد: ما مفارقين غير بالصبر. تشبث غريق بغريق!
رغم الشكاوى والحملات الأمنية والتوعوية ومسلسل “جوج وجوه” وسحر الصديقي… لا تزيد الظاهرة إلا تفاقما. الإحصائيات تشير إلى أن المغرب يحتل المرتبة الأولى عربيا من حيث عدد الشحاذين، بأكثر من 200 ألف متسول، متقدما على دولة مثل مصر، يتجاوز عدد سكانها مائة مليون، معظمهم من “الغلابة”. ورغم أن القانون الجنائي يعاقب من يمارس التسول بالسجن من شهر إلى ستة أشهر، مع تشديد العقوبة في حالات النصب واستعمال الأطفال، فإن الظاهرة لا تتوقف عن التوسع، على الأرجح، لأنها تدر على أصحابها دخلا كبيرا، وتقف وراءها شبكات منظمة، والسلطة تواجهها “بعين ميكة” في غالب الأحيان. ولا أعتقد أن مسلسل “جوج وجوه”، الذي بثته القناة الثانية في رمضان المنصرم، بالغ كثيرا في القصص التي نسجها حول الظاهرة…
هناك التسول المباشر، والتسول المقنع، وتسول النصب، الذي تقف وراءه عصابات منظمة، والتسول بالعاهات والأطفال والكلينيكس، وهناك التسوّل الاضطراري حقا، الذي يستحق منا التضامن والمساعدة. يوميا نصادف كل هاته النماذج…
كنت بصدد رَكْن السيارة أمام أحد المحلات التجارية الكبرى، عندما لمحت شخصا يشير عليّ كي أدير العجلات ذات اليمين وذات الشمال، ويقوم بتلك الحركات البهلوانية التي لا تصلح لأيّ شيء، سوى لتنبيهك أن المكان يوجد به حارس سيارات، ولا بد أن تدفع قبل المغادرة. انتابني ذلك الشعور الذي يجعلك مترددًا بين التعاطف مع المسكين والصراخ في وجهه، لأنك لست محتاجا لخدماته، ولا مسؤولا عن عطالته، ولا وزيرا في حكومة أخنوش. عندما خرجت من السيارة، سلمني بطاقة وهو يبتسم، دون أن ينبس ببنت شفة. استعطاف غريب. الاستجداء الصامت، آخر ما يمكن أن يصدر عن حارس سيارات! نقلت عيني بين البطاقة وبين شفتيه المزمومتين، وأدركت أن الشخص لا يتكلم، أبكم وأصمّ يبيع أوراقا تشرح لغة الإشارة، وكي يسترعي انتباه الوافدين على السوبر مارشي، يساعدهم في صَفِّ سياراتهم، ربما لان “مهنة” حارس السيارات تعتمد على الإشارات فقط. الكلام الكثير يفسد “الحرفة”. أعطيته عشرة دراهم، وشكرته على البطاقة والإرشادات. على البطاقة رُسمت حركات الأصابع بالأبيض والأسود ومقابلها بالحروف الأبجدية. تأملت الحركات مليّا وحاولت ان أقلد بعضها لكنني انتهيت بأن رميتها في سلة القمامة.
حين فرغت من التسوق، وبينما كنت أدفع “الشاريو” في اتجاه السيارة، أحسست بيد صغيرة تمسكني من البنطلون: “عمو ساعدنا الله يخليك، احنا لاجئين سوريين!”…
نظرت للطفلة مصعوقا. عمرها لا يتجاوز سبع سنوات. جميلة وبريئة بشكل لا يصدق. أحسست أنها يمكن ان تكون من العائلة أو الجيران أو هاربة من أحد المسلسلات. كانت تستعطفني وهي تشير إلى امرأة في الجهة الاخرى. نظرت للمرأة المحجبة الواقفة على بعد أمتار، ولمحت يدها تلوح بجواز سفر سوري … هذا الجواز الملعون بات صالحا لكل شيء: يتسول به المشردون، يبيعه المهربون، يستعمله العالقون في أوربا كي يحصلوا على اللجوء، يستخدمه الإرهابيون كي يموهوا هوياتهم… سوريا التي كانت رمزا للشهامة والنخوة والعزة، تحول أبناؤها الى متسولين على عتبات العالم. اللعنة على الحروب!
حركت السيارة في اتجاه البيت. في الضوء الأحمر، اقتربت مني أفريقية، من دول جنوب الصحراء، تحمل على ظهرها طفلا وفي يديها علب كلينيكس. كانت نافذة السيارة مفتوحة. مدت في اتجاهي علبة وهي تردد بعربية مكسرة: “آفاك، في سليب الله”… لم أستطع أن أمسك الضحكة. كانت عندي علبة كلينيكس، لكنني أخذت منها واحدة، وأعطيتها عشرة دراهم، كي أكفّر عن الضحكة، على الأرجح. ردت: “شكرًا” قلت لها بصوت مرتفع: “ماشي في سليب الله، في سبيل الله”، رددت وهي تتهجى الحروف: “في س ل ي ب الله!” حركت رأسي علامة على عدم الموافقة، لكنها ابتسمت ورفعت يدها على سبيل الشكر، ثم ذهبت الى حال “سليبها”!
“ما مفارقين غير بالصبر”
بواسطة جمال بودومة