تعكس حياة الفقيه محمد بنبين قمة التناقضات التراجيدية، التي ميزت سيرة المغرب المعاصر، فأبوه رافق التهامي الكلاوي 65 سنة، من بينها 55 سنة حين أصبح باشا، وخان السلطان محمد الخامس وناصر عزله عن العرش وبايع بن عرفة ملك الإقامة العامة ورمز الخيانة بالمغرب، فيما الفقيه محمد بنبين سيصبح أكبر مؤنس للملك الحسن الثاني الذي رافقه لمدة 33 سنة.. وفي اللحظة التي كان فيها الحسن الثاني يحتفي بعيد ميلاده بشكل امبراطوري بقصر الصخيرات يوم 10 يوليوز 1971، والفقيه محمد بنبين بالطبع ضمن مرافقيه، كان ابن مبسط الملك الضابط عزيز بنبين، يحمل رشاشه ويقتحم القصر الملكي صحبة جنود اعبابو من مدرسة هرمومو، الذين كانوا يفتحون نيران فوهات رشاشاتهم بشكل عشوائي على ضيوف الحسن الثاني، حيث كان ممكنا، تحت قدر أعمى وأحمق الخطا، أن يجد الابن نفسه وجها لوجه مع أبيه، الذي كان ممكنا أن يسقط برصاصة من فوهة رشاشة ابنه.. وفي الوقت الذي كان الأب الفقيه بنبين يجد ويجتهد من أجل أن يُذهب الغم عن الحسن الثاني ويُضحكه، كانت زوجته وأبناؤه، يبكون بالدمع الحارق لأن ابنهم وأخوهم الضابط عزيز، اختطف وتم ترحيله إلى الجنوب الشرقي، إلى سجن تازممازت، أكبر جرح إنساني في تاريخ المغرب المعاصر، دون أن يدلهم أحد، أهو حي يرزق، أم قُتل وُوري في لحد مجهول؟
لا تقف التناقضات عند حد في حياة الفقيه محمد بنبين الذي كان يمتص العسل من الشفرة الحادة لسيف السلطان وكان يُذيب حزنه فيما يحكيه للملك الراحل من أجل أن يُبسطه ويسليه، ولا يرتاح قلبه إلا حين ينام الملك على نكته وحكاياته، أو لما تند عن شفتيه ابتسامة الرضى المرحة، لم يكن يغادر قصر النعيم إلا مرة واحدة في السنة، لمدة لا تتجاوز الأسبوعين فقط، كان يقضي نصفها في صنع الخليع، والنصف الآخر في إنعاش ذاكرته بتصيد الحكايا والطرائف وبما ينفعه في مهمته الشاقة، لقد ظل “معتقلا” بالقصر لمدة 33 سنة باختياره، فيما ابنه عزيز بنبين كان معتقلا بالقوة والغصب لأكثر من 18 سنة في سجن تازممارت، وكان الحاجب الملكي الجنرال مولاي حفيظ هو من ينقل أخبار مآسي الانقلابيين للملك الحسن الثاني، وبينهم ابن مبسطه.
جرح ومصالحة عائلية بطعم الوطن
تمتد التناقضات إلى مدى بعيد في حياة الفقيه محمد بنبين، لا أحد يعرف إلى أي مدى كان هذا الرجل الممتلئ بالسخرية جد حزين، كان يوميا يُضحك الملك على مساحة شاسعة من آلامه التي ظل يخبئها في مناطق الظل من ذاته، فبعد حادث انقلاب الصخيرات عام 1971، تبرأ مؤنس الحسن الثاني من ابنه الضابط عزيز الذي شارك في الانقلاب على الملك، وعلى عكس أحمد بلا فريج الذي فارق الوظيفة وانزوى في منزله بالقرب من عائلته، بعد أن اكتشف أن ابنه أنس بلا فريج ضد الملك، اختار الفقيه بنبين وبطريقة تراجيدية حب الحسن الثاني على حب الابن الذي تبرأ منه..
علينا أن نلج الدواخل المعتمة لأب يتخذ هكذا موقف لنعلم التمزقات والتشظيات الداخلية التي كان يعانيها من كان يُبسط الملك الراحل.. هكذا افترق الأب عن أسرته، وطلق زوجته، وهاجره أبناؤه، يحكي الماحي بنبين جزءا من هذه التراجيديا المرة، في قالب سردي جميل على لسان الفقيه محمد بنبين في الرواية/السيرة: “مجنون الملك”.
ملخصها أن عزيز الذي نجا من الموت في الجحيم الهاديسي لتازممارت، أفرج عنه في بداية التسعينيات، فالتقاه أخوه الماحي بنبين الذي قاطع أباه لأكثر من 15سنة، بحكم عدم فعل الفقيه بنبين أي شيء من أجل إنقاذ فلذة كبده، كان أول ما قاله الضابط عزيز الناجي من الموت لأخيه الماحي بنبين، هو:
– “توحشت بَّا، ديني للرباط نشوفو”.
– آه، ما عندك ما تدير بيه، ما عندك لا أب لا والو، غير نساه، راه تبرأ منك…
– غاتديني عند بَّا واللا غا نقبط الكار ونمشي بُّوحدي!
وتحت هذا الإصرار الغريب، استجاب الفنان الماحي بنبين لطلب أخيه، وحمله إلى أبيه الفقيه بنبين، إن مشهد لقاء الأب مؤنس الملك بابنه عزيز، يصل قمة الموقف الدرامي، بكى الثلاثة، واستعادا الوجه الإنساني في كل واحد منهم، فيما يشبه المصالحة العائلية النبيلة.. وهما عائدين من عند الأب الفقيه، بادر الضابط عزيز أخاه الماحي:
– هل تعرف كم كنا في تلك البناية من معتقل تازممارت الرهيب؟
-…………………
– 29 عسكريا، عاش منهم أربعة أشخاص فقط، فيما لقي 25 شخصا حتفهم، هل تعرف لماذا صمد هؤلاء الأربعة وأنا واحد منهم؟ لأننا تخلصنا من الأحقاد والضغائن، ليس فقط اتجاه أبي الذي تنكَّر لفلذة كبده، ولكن أيضا اتجاه الحسن الثاني نفسه، إن الأمر يتعلق بقدري الشخصي، كما لو أنه مقدر لي أن أرى ما عشته بعيني، إنها إرادة الله، لقد نجحت في الامتحان الإلاهي بأن بقيت حيا، بعد عذاب عمر 18 سنة، كنت مهددا فيها بالموت من أبسط عقرب يتسلل إلى زنزانتي، ببساطة لم أعد أحمل في قلبي غلا أو حقدا لأحد”.(انظر العدد 745 من “الأيام”).
شاعر الحمراء يتوسط لبنبين لدى الحسن الثاني
وهنا نمسك بذيل ذاك التناقض الأسمى في شخصية الفقيه محمد بنبين، فقد كان الشاعر محمد بن إبراهيم هو من توسط له – وهو في قبره- لدى الحسن الثاني ليدخله إلى القصر، والوظيفة: “مهرج سيدنا”.. وأصل الحكاية أن أب الفقيه محمد بنبين، مبسط عائلة الكلاوي ورفيقه، كان يصحب معه ابنه محمد بين الفينة والأخرى إلى قصبة الكلاوي وهناك سيلتقي في ركن من مطبخ القصر شخصا متواضعا، حزينا، يبحث عما يأكله.. لم يكن سوى الشاعر محمد بن إبراهيم الذي نظم قصائد عديدة في مدح الباشا الكلاوي..
أُعجب شاعر الحمراء بنباهة الشاب محمد بنبين، وبما يحفظه من شعر وحكايات ومتون، فأصبحا صديقين، كان بن إبراهيم شاعرا سكيرا يقضي الليل كله في التسكع متنقلا بين حانات المدينة الحمراء وبرفقته من سيغدو مؤنس الملك الحسن الثاني، كان الشاعر والغاوي لا يفترقان حتى بعد وقت متأخر من الليل، كل له غنائمه الخاصة في جلسات الأنس والمجون والشعر…كان الشاعر محمد بن إبراهيم حين يستفيق من نومه، يتذكر بالكاد نتفا قليلة من شعر مرتجل جادت به القريحة في مجالس الحانات، لكنه عاجزا عن تذكر كل أشعاره، فيلجأ إلى محمد بنبين، الذاكرة المصاحبة له، فيأبى هذا الأخير تذكير محمد بن إبراهيم بشعره، حتى يسلمه شيئا ثمينا لديه، مرة سلسلة ذهبية، أو ساعة يد ثمينة أو خاتما نادرا… أو أي شيء نفيس يقايض به القصائد التي نسيها شاعر الحمراء، الذي حتى بعد موته سيشفع لبنبين عبر منحه البطاقة البيضاء لولوج القصر الملكي. محملا على أكتاف عمر الخيام المغربي.
قصائد شاعر الكلاوي تقود بنبين إلى القصر الملكي
كانت سيدة الطرب العربي قد قامت بزيارة إلى المغرب في نهاية الستينيات، وكانت الصدفة وحدها وراد التقاء مدير ثانوية “للا مريم” بمراكش، الفقيه محمد بنبين، بأم كلثوم حيث أنشد بحضرتها، بعض قصائد الشاعر محمد بن إبراهيم، نالت إعجابها، فطلبت نسخة من ديوان هذا الشاعر الكبير، فكان الرد بأن هذه الأشعار غير مطبوعة، صادما وغريبا بالنسبة لأم كلثوم، التي حين التقت الحسن الثاني تساءلت باستغراب أمام الملك:
– كيف يوجد لدى المغاربة شاعر كبير، وأشعاره غير محفوظة، أَيُعقل يا جلالة الملك أن يكون لديكم عمر الخيام المغربي، وأشعاره غير محفوظة في كتاب.
أرسل الملك الراحل في طلب الفقيه محمد بنبين وقال له بأنه وصل إلى علمه بأنه يحفظ أشعار محمد بن إبراهيم وكلفه صحبة شخصين آخرين بجمع كل ما قاله شاعر الحمراء، نفحهم وأعطاهم مهلة ستة أشهر. ولأنه كان يحفظ معظم قصائد محمد بن إبراهيم، فقد قضى خمسة أشهر صحبة صديقيه في النشاط والأنس بمخيم “بست فاطمة”، وصرفا الشهر الأخير في تهييئ الديوان وتقديمه إلى الملك الحسن الثاني الذي أعجب به وبجامعه، من يومها لم يغادر الفقيه محمد بنبين القصر الملكي.. لقد أصبح مؤنس الملك وآخر من يغادر غرفة نوم الحسن الثاني بعد أن يكون هذا الأخير قد عانق الشطر الآخر من الليل.
ها هنا أكبر تجل لجماع التناقضات في مغرب مركب، فابن مؤنس التهامي الكلاوي الذي خان العرش وكان مع عزل السلطان محمد الخامس، سيصبح هو مؤنس الحسن الثاني، وأمير المؤمنين يأمر بجمع قصائد الشاعر الماجن محمد بن إبراهيم الذي كان أبوه يريده أن يكون رجل دين، واشتهر بقصائد كثيرة في مدح الباشا الكلاوي الذي كان ضد أب الحسن الثاني.
ذاكرة غريبة تتجاوز حدود العقل
“كان ذاكرة تمشي على قدمين”، هكذا يصف كل من صادف الفقيه محمد بنبين، حفظ القرآن الكريم وهو ابن 12 سنة، وكان يستظهر ألفية ابن مالك وما لا يحصى من المتون وهو بعد صبي، كان بمجرد أن يقرأ الكتاب يعلق بذهنه، ويستظهره من صفحته الأولى إلى الصفحة الأخيرة.. كان يمتلك ذاكرة خارقة تتجاوز الحدود الإنسانية، يحفظ مقامات الحريري والهمداني وأشعار المغاربة والمشارقة ولا ينسى بيتا مما نظمه شاعر الحمراء خله وراويته، والعديد من الحكايات والأساطير والأشعار القديمة، ويحار المرء أن يحكم هل كان ذلك سبب سعادته أم سبب تعاسته، لذلك كان يعتبر نفسه أكبر من مهرج أو مبسط للسلطان.. إنه مجنون الملك.
مرة كل الفقيه بنبين صحبة ابنه في باريس، اشتكى له أنه بحث عن كتاب أساسي فلم يجده في كل مكتبات باريس، فقال له، اسم الكتاب ومؤلفه، فأخذ الفقيه بنبين يستظهر له الكتاب من المقدمة! ومرة استضاف الوزير باحنيني الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، وحضر الفقيه بنبين، فقيل للشاعر العراقي إن بنبين ذاكرة مغربية خارقة، فسأله الجواهري إن كان يحفظ له شعرا، فقال له بنبين:
-هل تريد قصائد في الفخر أم في الغزل؟
ولما استغرب أن ليس له قصيدة في النسيب، استظهر الفقيه بنبين قصيدة سيتذكر المهدي الجواهري أنها بالفعل من بنيات أفكاره التي كان قد نسيها تماما.
درس بنبين اللغة الفرنسية وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1938 وشهادة البروفي عام 1940، وتخرج من ثانوية بن يوسف عام 1943 بشهادة العالمية في الفرع الأدبي، حيث عمل كمعلم ثم كأستاذ في الثانوي… تعددت مواهب الفقيه بنبين الذي ظل يرفض حقا أن ينعت بأنه مهرج الحسن الثاني أو مبسطه، لقد كان بمثابة المنبه الاجتماعي والثقافي للسلطة التي وحتى عبر الكذب والسخرية وبيع الأوهام أحيانا، كان يعمل على منح السلطة بعضا من الوجه الإنساني.