وجب التذكير بأن الهجرات من بلدان إلى أخرى كانت ولا زالت معطى طبيعي وموضوعي منذ عدة قرون. تقارير المنظمة الدولية للهجرات للهجرة تسجل سنويا أعداد المهاجرين وأسباب هجرتهم ونتائج تعامل حكومات دول العالم مع أفواج بشرية تصل إلى حدودها. وتسعى إلى جعل الهجرات فرصة للنجاح وليس للغرق في البحار، وستؤكد على هذا الهدف خلال ندوتها السنوية المقبلة على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة.
أعادت ألمانيا نظام مراقبة حدودها قبل أيام. وقامت إيطاليا بوضع سياستها اتجاه المهاجرين خارج المنظومة القانونية للاتحاد الأوروبي. وأصبحت الانتخابات في معظم دول العالم مناسبات لإعطاء أولوية لحماية الحدود والتعامل مع الهجرة بمنطق انتهازي يفرغ جهود دول الجنوب في مجال تكوين الاطر من فاعليته وتأثيره على قطاعات الصحة والتعليم والاقتصاد. آلاف الأطباء والمهندسين والأساتذة والممرضين يستجيبون لنداء من أجل الحصول على خدماتهم في دول أوروبا وأمريكا. وهذا ما تسميه كل اللغات بهجرة الادمغة.
تظل الحقيقة أن إغراء آلاف الأطباء والمهندسين والخبراء سرقة لرأسمال أغلى من البترول والذهب والفوسفاط وكل المعادن. وتسكت كل الابواق العنصرية حين تسرق بلدانها طبيبا ومهندسا تكون بفضل ما توفر من موارد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ويزيد مستوى الصخب الإعلامي الغربي حين تصل إلى أوروبا أفواج من المهاجرين” غير المرغوب فيهم”. وتنسى المواقع الإلكترونية وكثير من مؤسسات الأخبار وجزء كبير من كتاب الرأي، أهمية الموضوع ووضعه في إطار جيواستراتيجي وربطه بفشل الليبرالية في خلق علاقات اقتصادية عادلة بين دول الشمال ودول الجنوب. ويمعن كثير من الجاهلين في إغراقه في مستنقعات فكرهم المغلق، ومحاولة استغلال كل حدث للتعبير عن تنكر مطلق لكل قيم التحليل الموضوعي المترفع عن الاستغلال البشع لآلام شباب يبحثون عن حل لواقعهم.
وجب التذكير كذلك بأن الوضع الجغرافي للمغرب ذو نفع كبير على علاقاته الدولية في مجال التبادل التجاري والصناعة والخدمات المالية وغيرها. ولكن موقع المغرب الجغرافي جعل منه معبرا إستراتيجيا بين أفريقيا وآسيا وأوروبا. أصبح مضيق جبل طارق منارة تجلب طالبي هجرة إلى الشمال في كل المواسم. أصبح ذلك الحاجز الوهمي بين مدينتين مغربيتين رمزا للعبور من ” الفقر إلى الغنى أو إلى الكفاف “، ومن المعاناة إلى حلم كبير، ومن بلاد، لا تعطي شيئا إلى جنة قد تمنح كل شيء. الصور تتزاحم في حلم كثير من الشباب واليافعين وحتى الأطفال غنية بالرموز عن جنة مفترضة. وانتقل الشباب من الجزائر والنيجر والسنغال وغينيا ومن مختلف دول آسيا للاقتراب من نقط العبور الأكثر سهولة. وزادت درجة إيمانهم بتغيير حياتهم ولو ابتلعتهم مياه البحر.
وتتم تغذية الرغبة في عبور إلى المجهول عبر الكثير من الوسائل ومن ضمنها سياسات عمومية وخطابات تغازل وتدغدغ الحلم. وتحمل مؤسسات الدولة كل مسببات مغامرات وسط أمواج عاتية لا ترحم أحدا. يميز القارئ والملاحظ بين منطق تبسيط رؤية الحدث ومنطق تحليله بعمق. فشل أصحاب البلاغات باسم حقوق الإنسان وباسم المجتمع المدني في اعمال العقل وعدم الانسياق وراء السعي إلى كسب إعلامي وتواصلي فقط لا غير. وفشل كثير ممن حاولوا اقحام مكونات المقيمين من المهاجرين ” السريين” في بلادنا، من جنوب الصحراء ومن دول الجزائر وتونس وحتى من دول آسيوية، للتدليل على مناورة ساهم في تأجيجها جارنا الشرقي الغارق في مستنقع أكبر من طموحاته ومناوراته. ولا يمكن أن ننتظر منه غير هذا. حاول بعض شيوخ اليسار واليمين من ربط شباب يائس بطارق بن زياد وبكثير من الاستشهاد، مع تحوير، لآيات من القرآن. وحاول ضعاف النفوس، والغائبون عن الفعل في المجتمع والشارع، استغلال حدث هجرة شباب وتحويله إلى مناسبة لإطلاق شعارات، لا تغني ولا تسمن من جوع.
لا يعلم مؤججو بؤر التوتر من داخل بلادنا بأن للكلام فعله في الناس. يتطلب الأمر أولا وأساسا محاسبة المسؤولين على كافة المستويات. ويجب أن تتم هذه المحاسبة في إطار القانون. لا يجب أن ينساق أصحاب الاختصاص في إصدار البلاغات، وراء كسب وهمي لموقع لدى الرأي العام. ولا يجب أن تتغنى الحكومة، بكل مكوناتها، بإنجازات لا وجود لها إلا في خيال من يكتبون خطابات رئيس الحكومة. تكاثر الشباب الذي لم تصله نتائج برامج محاربة الهشاشة والفقر. زادت الهوة بين الفقراء والأغنياء وأصبح غلاء المعيشة شبحا يعيش في قلب الأسر. ويجب أن تتم قراءة حدث متجدد في نفس المنطقة في شمال المغرب بكثير من الموضوعية. وضعت الجغرافيا ثقلا على مدينة الفنيدق منذ عقود. وأصبحت غابات هذه المنطقة خارجة عن السيطرة. تتقاطر العشرات من الجنسيات على الفنيدق ومركز بليونش، قليل منهم يتمكن من التواجد بإستمرار في الخط الحدودي الذي يفصل سبتة المحتلة عن الوطن.
قال بعض ” الفهماء” أن السلطات المغربية يجب أن تترك الحرية للشباب والأطفال الراغبين في الهجرة، ولو كانت غير شرعية، لكي يعبروا إلى سبتة. وقال بعض الحالمين، الذين تجاوزهم التاريخ ومعطيات التدبير السياسي للازمات، وكذلك أولئك الذين لا تهمهم الوحدة الترابية للبلاد، أن الفترة الراهنة مناسبة، لتحرير سبتة من طرف أحفاد طارق بن زياد.
سترجع سبتة ومليلية إلى الوطن بفضل العمل السياسي الإستراتيجي. قد يتمكن المغرب من تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية، ولكن الرغبة في الهجرة إلى الشمال ستظل رغبة لا يمكن طمسها في مخيال الكثيرين. ولأن التذكير قد يغير المواقف، وجب التأكيد على ضرورة الالمام بدور مافيا تهجير الراغبين في الالتحاق بإسبانيا. ستستمر ظاهرة المغامرة بالنفس والنفيس للوصول إلى الشمال الموجود في جنوب أوروبا. وستستمر لأنها نتيجة لكثير من السياسات العمومية ليس في المغرب فقط، بل في كثير من دول أوروبا وأفريقيا وآسيا. قد يتمكن اقتصادنا من خلق آلاف مناصب الشغل، وقد تستمر الرغبة في الهجرة إلى الشمال. الموضوع أكبر من اقتصاد دولة أو مجموعة من الدول. ملايين من مواطني دول كثيرة سيضطرون إلى الهجرة بفعل تغير المناخ والاختفاء الحتمي للكثير من الجزر والأراضي القريبة من الشواطئ.
ستظل الهجرات قائمة كما كانت، وستستمر الإنسانية متنوعة، كما كانت، بفعل حتمية التنقل من مكان إلى آخر. أكبر دولة في العالم، وكثير من الدول في أمريكا وأستراليا صنعتها الهجرات ذات الطابع العنيف والاستعماري. وسيستمر الوضع على ما كان عليه. بلادنا توجد في ملتقى الدول والحضارات وستؤدي دورها بسلبياته وإيجابياته. سكان مغرب اليوم، كباقي الدول، متنوعو الجذور الاثنية والثقافية وهويتهم الجميلة شكلتها تراكمات وتفاعلات بين مكونات متنوعة من البشر.
يجب التأكيد على أن الأوضاع السياسية والاقتصادية، مهما كانت مستويات استجابتها لشعب في وطن، تظل عنصرا مؤججا للرغبة في البحث عن آفاق أحسن. ستظل هذه الأرض معبرا للكثيرين ومستقرا لبعضهم. سيظل مضيق جبل طارق، وغيره من الأماكن في إيطاليا واليونان وتركيا وشمال فرنسا، منبع جذب للكثير من الباحثين على أوضاع أحسن. ستضطر الدول إلى الحد من الهجرات بشتى الوسائل. العالم يتغير وينتج لاجئين بلغ عددهم، حسب الأمم المتحدة، أزيد من 117 مليون سنة 2023. وتجاوز عدد المهاجرين أكثر من 300 مليون نسمة. لا يمكن عزل ما جرى في الفنيدق قبل أيام عن التحولات التي تعرفها قضية الهجرة.
امتنع الأمن المغربي عن إيذاء المهاجرين رغم صعوبة السيطرة على الموقف من الناحية الأمنية. والكل يعرف أن الوضع سيستمر وقد يتطور. كتاب البلاغات ” الخاوية ” يفتقرون إلى حضور في الميدان رغم بذخ الخطاب ونظرته الفوقية إلى الأوضاع. ويجب أن لا ننسى أن المغرب قد تسبب في شل الحركة الإقتصادية في مدن سبتة ومليلية المحتلتين. توقف نزيف التهريب وتوقفت حركة تحويل ملايير الدراهم التي استفاد من فعلها المالي قوم ممن دخلوا إلى مضمار السياسة والقرار الترابي. أحداث الفنيدق ليست مجرد حشد لشباب من أجل التعبير عن صعوبة بناء أفق للأجيال المشكلة أكبر وتهم تدبير اقتصاد وسياسة وتراب وقضايا شعب. والأمر يزداد تعقيدا بفعل الموقع الجغرافي. الا يكفي تعلق المغرب وإسبانيا بالربط القاري للتأكيد على تزايد نسبة الأمل في العبور لدى ملايين الأفارقة.
الهجرة والشعبوية والتطرف ومسؤولية الحكومة
بواسطة إدريس الأندلسي