لنتفق أولا على أن القرار الموريتاني الأخير برفع الرسوم الجمركية على الخضر والفواكه المستوردة من المغرب عبر معبر الكركرات، بأكثر من الضّعف، هو قرار يضُر المستهلك/المواطن الموريتاني أكثر من إضراره بمصالح المُصدرين والتجار المغاربة، لأنه إذا كان صاحب المنتوج المغربي يربح ألفا أو ألفين فلابأس أن يربح أقل من ذلك، وإن كان التاجر النبيه والمتمرس لا يخسر في الغالب، لأنه يلجأ إلى الطريق السهل لتفادي الخسارة وهي الرفع من الأسعار، أو البحث عن مشترٍ آخر، وفي الحالة الموريتانية له مبرر قوي وواقعي، ليلجأ إلى حلول تنقذ بضاعته وتجارته!
ولأن المتضرر أكثر هو المواطن الموريتاني، ذو الدخل المتواضع الذي يعيش ظروفا اجتماعية واقتصادية صعبة، فإن ممثلي المجتمع المدني الموريتاني وجمعيات حماية حقوق المستهلكين سارعوا إلى التعبير عن غضبهم ورفضهم لقرار سلطات بلادهم أكثر من التجار المغاربة.
من حق موريتانيا طبعا، وكل دول العالم، أن تحمي وتُحصّن أسواقها المحلية وإقليمها، ولكن بشرط أن لا يكون ذلك على حساب المواطنين الذين في هاته الحالة الماثلة أمامنا ليسوا مع خطوة مسؤوليهم، ما دام القرار ينال من جيوبهم ومن ميزانية حياتهم الصعبة هذه الأيام.
وإذا كانت تجارب علاقاتنا الصعبة مع الشقيقة الجنوبية قد علمتنا أن قرارات نواكشوط لا تكون دائما من صميم إيمان مُصْدريها بمدى ملاءمة تلك القرارات مع مصالح بلادهم وأن أيادٍ عابثة بالسياسة والسيادة الموريتانيتين عودتنا على حشر أنفها في بلاد شنقيط، فإن هذا القرار الذي وُصف بـ”المفاجئ”، يبدو أنه لم يكن له من داعٍ إلا إرضاءُ الجهة تلك، وكم يكون الأمر مؤسفا، إن كانت الجهة هي الجار الأحمق، الذي لطالما تحرش بالمسؤولين الموريتانيين، بل وهددهم -والتاريخ شاهد على ذلك- واحتل أرضهم، بطريقة مباشرة أو بانتداب مرتزقة البوليساريو المأمورة بأمره؛ ويفعل ذلك كلما تمادى الموريتانيون في قربهم من المملكة المغربية!
وإذا أخذنا بعين الاعتبار التطورات الأخيرة، على مستوى المنطقة، بدءا بالاجتماع الوزاري لدول الساحل بمراكش بشأن تفعيل مبادرة الملك محمد السادس بتمكين هذه الدول من ولوج المحيط الأطلسي، وكذلك عدم إقدام نواكشوط على إدانة حوادث مقتل موريتانيين بطائرات “درون” عسكرية مغربية دخلوا المنطقة العازلة في الصحراء، بل واكتفاء نواكشوط فقط بتنبيه مواطنيها بعدم فعل ذلك مستقبلا؛ أضف إلى ذلك بروز مؤشرات على طي دولة مالي دور الوساطة الجزائرية في نزاعها الداخلي، واحتمال عرض مثل هذه الأدوار على الرباط، في ظل الزخم الذي تعرفه العلاقات بين البلدين لاسيما بعد “المبادرة الأطلسية”، عدا عن تطورات قضية الصحراء المغربية لفائدة بلادنا..
كلها عوامل قد تجعل حكام الجزائر يلجأون إلى لُعبتهم الخبيثة المألوفة، وهي تهديد الموريتانيين وتحذيرهم من مغبة الذهاب بعيدا في التعاون مع الرباط، بل ليس من المستبعد أن يكونوا وراء إرغام ساسة نواكشوط على فرض الرسوم الأخيرة على التجارة مع المغرب، لاسيما في ظل عجز الدولة الجزائرية وفشلها في مجاراة تجارة القوافل المتدفقة من المغرب في اتجاه موريتانيا وجنوب الصحراء، بعد عدة محاولات، تُوجت بالتخطيط لتشييد طريق -ما يزال قيد الدراسة منذ أزيد من سنتين- يربط بين تندوف في الجزائر والزويرات الموريتانية على طول 773 كلم، ليكون منافسا للمحور التجاري المغربي الذي يعبر معبر الگرگرات!
ولعل إسراع آلة بروباغندا النظام الجزائري إلى التحدث عن “أزمة” بين نواكشوط والرباط، بسبب قرار رفْع الرسوم، وهو ما لا يعكس الحقيقة، على اعتبار أن الأمر لا يرقى إلى أزمة بين البلدين ويهم فقط التجار كأفراد كما يهم الشأن الداخلي الموريتاني بالأساس، وهو ما تفاعل ضده المواطنون بغضب، فإن هذا الإسراع والتسرع البليد للجزائريين وحديثهم عن أزمة ينم ويفضح الكثير من الأمور المُبيتة دوما في نفس هذا الجار “المريض” بخلق الأزمات!
على سبيل الختم.. موريتانيا في الجغرافيا المغاربية الحالية تظهر كأنها تلك الفتاة غير البالغة بعدُ سِن الرشد، والأخت الخجولة التي لا تعصي أمرا لشقيقَيْها الكَبيرين (المغرب) و(الجزائر)، فقط عندما تفعل ذلك مع شقيقها الأول الرشيد، فإنه يلتمس لها ألف عذر بل يزيد من رأفته وعطفه عليها، لأنه يعرف جيدا أن الشقيق الآخر الأرعن، لن يعذر أخته الصغرى بل قد يضايقها ويتعدى عليها حتى من دون أن تؤذيه، وقد يقترف حماقات حتّى في حقها.. وهذا هو الفرق بين الشقيقين النقيضين اللذين ابتليت بهما موريتانيا!!