“العبقرية هي القدرة على تحمل المشاق” كارليل
كل مرة أخط فيها حرفا عن الراحل علال الفاسي، أكتشف جانبا جديدا في تفاصيل حياته قد غاب عني، كتبت عنه منذ عشرين سنة خلت مقالات عديدة وبروفايلا كان عليّ دوما أن أستدرك ما فاتني في ملامسة شخصيته الباذخة الثراء وأجدده، إذ في كل مرة كان يبرز لي جانب عصي عن التملك أو على الأقل مجهول لدي.. هو هذا علال الفاسي بالنسبة لي كصحافي وكمهتم بالشأن الثقافي والفكري، يبدو لي شخصا متعدد الأضلاع، مثل زمردة، جوانب نشاطه وحركته أقوى من أن تقوم كتابة بتأطير حدوده الوارفة الظلال، حتى ليبدو لي حقا أنه لم يكن فردا، بل مفردا بصيغة الجمع، تعددت اهتماماته، تشابكت في مسارات عبوره حقول عديدة من الفقه إلى السياسة، ومن الحب إلى الشعر، من النضال المرير والنفي السحيق حتى التنظير للحرية والديمقراطية في هوية أمة وإنسيتها، ومن مصاحبة أوطن نحو التحرر من قيوده إلى التدريس والتعليم والتربية، لم يفقد أبدا حاسة التفكه برغم الصرامة التي تبدو على ملامحه المتجهمة وهو يخطب في الناس، لم تغب بداهته يوما، كان ثوريا في جبة إصلاحي، مسلما منفتحا ومجددا، شاعرا رهيف الحواس، عميق الفكر، منظرا بعيد المغزى جمع بين البعد الاستراتيجي للقائد السياسي والمصلح المؤمن بأن الممكن في السياسة باب للحوار حول الأجمل والأنبل، لم يكن أبدا مغامرا وظل الوطن يسكنه حتى وإن كان سببا في نفيه، علال الفاسي أكثر من رجل أو قائد سياسي إنه منارة كانت ضرورية أن يعبرها حتى معارضوه ومنتقدوه لكي يلجوا الفهم الأولي لمفاتيح خزانة المغرب، التي لم تكن سوى الحب والتضحية والنضج والالتحام الصوفي، في كل ما خطته يداه وسطره قلبه وأومأ إليه بإماءة من طرف قصي، لم يكن يشر سوى لقلبه أي لوطنه الذي سكنه حتى في المنافي القصية.
لم يكن علال الفاسي زعيماً سياسيا بالأفق المحدود للجماعة الحزبية، بل كان رمزاً لجيل، ووشماً بارزاً على جسد مرحلة بكاملها، في تأمل مسار حياته، مواقفه، كتبه.. كان لوحده أمة في رجل، منذ حداثة سنه اجتمع فيه ما تفرَّق في عظماء جيله، روح السلفية الوطنية، ظلال العلم الوارفة، عمق الأصول الثقافية، انفتاح واسع على الأفكار الجديدة القادمة رياحها من الشرق والغرب، خيال سياسي واسع، وهو ما سمح له بأن يكون أحد العلامات المضيئة في مغربنا المعاصر، كسياسي استراتيجي، وكرجل دين متنور، وكشاعر وطني، ومثقف يضع نعيم النظرية في جحيم اختبار الممارسة.. كان علال الفاسي فقيها، ولعل الكثيرين من خصومه كانوا ينظرون لخِرّيج القرويين من خلال هذا اللقب كرجل تقليدي محافظ، حين كان بريق النظريات العلمانية والشيوعية يلمع، قبل أن يُتبين أنها ليست ذهباً، وعلينا اليوم، في زمن هَجْمة الفكر الوهابي وعودة التحجُّر للعقل الفقهي، أن نستشعر حجم الخسارة لمفكر من حجم علال الفاسي، لقد كان بمثابة السور الواقي لتسرُّب الأصوليات غير المالكية لتربة الفقه المغربي، وشكل عمق تكوينه الديني واجتهاداته الواسعة في القضايا الفقهية المستحدثة، نبراسا للفكر الديني بالمغرب..
لقد افتقدنا بموته منارة كبرى للاجتهاد الفكري، ولروح عالم الدين المنفتح على أسئلة عصره بأفق حداثي ينسجم مع جوهر الدين، لذلك لم ير الأحزاب بدعة، والدستور شِرْكا والديمقراطية كفراً وكان يستشهد دوماً بقول ابن قيم الجوزيه: “إن إمارات العدل إذا ظهرت بأي طريق كان، فهناك شرع الله ودينه، والله تعالى أحكم من أن يخص طرق العدل بشيء ينفي ما هو أظهر منه وأَبْين”.. مضت اليوم 50 سنة على رحيل الزعيم علال الفاسي.. نحس معها حجم اتساع دائرة الفقد حين نعود إلى واقع الحال، وإلى هجمة فقهاء من الدرجة الرابعة والخامسة إلى مواقع الإفتاء والقرار في الأمن الروحي للمغاربة… كان نضج فكره أكبر من سن مرحلة سياسية بكاملها، من كتابه النظري “النقد الذاتي” إلى “مقاصد الشريعة”، ومن الحركات الاستقلالية في المغرب العربي” إلى “عقيدة وجهاد”… نشعر بأن علال حي فينا، لأنه كان يمتلك أعين زرقاء اليمامة على عصر كان يعرف أنه لن يعيشه، وعاش أسئلتنا بقلق من يتوقع ما على السطح قبل أن يتجاوز عتبة الدرج الأول من السلم. وها نحن بعد نصف قرن على رحيله نحس بيتم أبنائه الذين خرجوا من الصلب والترائب، وبفقر زعماء من ورق ينتشرون بيننا كالفُطر على واجهة الفِتْرينات السياسية..
في النقد الذاتي نحس بعلال المفكر الحر الذي يزن الفكرة بمثقال من ذهب، وفي التعادلية يُطوِّع الفكر الوافد على الإيديولوجية التي سطر عناوينها الأساسية ونادراً ما تتجمع في ذات واحدة نزاهة الفكر وبراغماتية السياسة. كان الراحل علال الفاسي سياسيا استراتيجيا ويمكن اعتباره إلى جانب الراحل عبد الرحيم بوعبيد، الكائن السياسي الذي يفكر ويمارس كرجل دولة وليس كزعيم حزب سياسي، كان يضع أسئلة الأمة المغربية فوق أسئلة الحركة السياسية التي كان أحد صناعها لذلك كان ميالا لفن الممكن على خلاف مجايليه، فآمن بالدستور كمدخل للحياة الديمقراطية. لم يكن النموذج الديمقراطي الذي يحلم به علال هو دستور 1962، لكن رأى فيه مدخلا أساسيا للعمل في ظل المؤسسات التي يحكمها القانون على علاته بدل ترك الهوى لِغُول الحكم الفردي الاستبدادي، لذلك طاف أطراف المغرب ينبه المواطن المغربي ليمارس حقه الدستوري.. لم يكن هاجس علال الفاسي جمع الثروة في مغرب الفراغ حيث كان يمكن أن يتربع على كنوز من ذهب، وفي خضم أحلام الثروات التي دوّخت العديد من مجايليه، كان يبدو محافظا وبنظر خصومه رجعيا لكنها رجعية خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين مُتَوَثِّبتين إلى الأمام.. لأنه كان أكثر وعياً من محمد بلحسن الوزاني المندفع وبن بركة الثائر والفقيه البصري المتمرد بحدود ممكنات الواقع، ورأى، ربما بتأثير من الإصلاحي محمد عبده والثائر عبد الرحمان الكواكبي والمصلح شكيب أرسلان، أن الجهل والأمية هما أكبر عوائق التغيير، لذلك أنشأ رحمه الله مدارس أبناء الشعب وجمعية بُناة الاستقلال التي كان وراءها المهندس خريج البوليتكنيك محمد الدويري، لأنه آمن أنه طالما لم يفك قيد الجهل عن المغاربة.. فإن أي تحرر في المغرب يصبح مستحيل. هل مات علال الفاسي؟ علال قُمْ من مرقدك الأبدي، وأشهر وجهك النوراني فينا لعلنا نصدق أنك مُتَّ وعلينا أن نتقبل كل هذا البؤس السياسي المخجل بكامل الحرية. أيها الشامخ مثل نخلة في واحات حقولنا، يا وردة نرثي فيها الزمن الجميل كلما أشاح بوجهه عنا امنحنا بعدا من نبوغك وحسك السياسي في زمن ربَّات الحجال وأشباه الرجال.. ما أحوجنا اليوم ليس لفكر علال الفاسي بالضرورة، ولكن لجرأة فكره وعمق تصوراته وبعد حدسه السياسي، نحن نعيش اليوم ظلمة السياسة وغياب المعنى في الممارسة السياسية حيث يسود الأدعياء وزعماء صندوق الوقيد. لم تعد النسور تعيش بشموخها في الأعالي بكبرياء الكبار، ولكن في السفوح الوضيعة مع الغربان. عش فينا يا علال لا لنمدحك ونزين صدرك بالنياشين، بل فقط لكي لا نفقد الأمل في أن على هذه الأرض مازال هناك شيء جميل يستحق أن نعيش من أجله. هل تكفي 50 سنة من النسيان لنتذكر عمقك، وبُعد بصيرتك؟ أومن بالخلف فقط لأني لست سلفيا مثلك، فدمت في أعز ما يمكن أن يحلم به امرئ منارة في قلب وفي أعين أمة.