مقاوم، وطني، اشتراكي، ثوري، مصلح، حقوقي، سياسي، إعلامي، نقابي، زعيم حزب ورجل دولة… كان مثل نهر ضخم تلتقي فيه شرايين أودية عديدة، قاد حزبا أصبح مثل “العربة المنهوكة”، وأنقذ وطنا من السكتة القلبية، وفي كل مساره ظل محافظا على نقائه وطهرانيته، لذلك احتفى به المغاربة بشكل ملفت غداة رحيله، كما لو أنهم ينعون معه زمنا سياسيا برمته..
ظل عبد الرحمان اليوسفي متقدما في الصفوف الأمامية دوما من مرحلة المقاومة ومعركة التحرير إلى بناء الديمقراطية، تفتت حزب بين يديه مثل كعكة باردة، بسبب طول الضربات من الأصدقاء والخصوم، جرب قطع السلاح على يديه، وشحذ قلمه في معركة قاسية، قادته إلى طلب النيابة العامة استصدار حكم بالإعدام ومنفى طويل.. كان قدره دوما أن يكون مسعفا، احتاجته المقاومة فكان في طليعتها، واحتاجته الثورة فامتطى فرسه في غمارها، ولبس البذلة لما استنجدت به معارك حقوقية وطنية وقومية، ولما كاد الحزب ينشطر بعد رحيل بوعبيد كان ملحم أجزائه، وحين كاد الوطن يصاب بالسكتة القلبية قاد مغامرة شجاعة للمصالحة الوطنية بين القصر والحركة الوطنية.. شحذت على ظهره سيوف ونصال، وما ضعف ولا لان.. ولما أحس أن الزمن غير الزمن، قدم استقالته من السياسة فيما يشبه النعي الأخير وتفرغ لما تبقى من فاكهة في سلة العمر واسترجاع “ما جرى”.
الزعيم المتعدد، بطل أم ضحية الحروب العادلة؟
قدر لعبد الرحمان اليوسفي أن يقيم في مفاصل حاسمة من التاريخ المغربي، زعيما وقائدا، مقاوما وحقوقيا، إعلاميا ورجل دولة.. ومنذ ولادته بطنجة سيعبر المدن الكبرى التي وشمت كل واحدة منها، جزءا من مساره من مراكش إلى الرباط فالدار البيضاء، قبل أن يجد نفسه في منفى طويل بمنتجع “كان”، لكن الفتى العربي فيها كان غريب الوجه واليد واللسان كما يقول المتنبي، لولا أن فرنسا كانت أشد رأفة به، بما نسج فيها من صداقات وما تقاسمه على أرضها من قضايا حاسمة في التاريخ الإنساني.. من المقاومين والوطنيين وأبطال “الحروب العادلة” إلى قوميي ميشيل عفلق حتى العدميين والفوضويين من التروتسكيين إلى الماويين، ومن الشيوعيين إلى الاشتراكيين الطوباويين.. لكنه ظل يحمل “ريح البلاد” التي حملته وهنا على وهن ولفظته في المنافي، ومجرد ظهور صورة له في التلفزيون المغربي بشكل عابر، كان يقيم الدنيا ويقعدها.. زلزال شهدته التلفزة المغربية بسبب مرور وجه المعارض اليوسفي الذي كان يحلم بالثورة.. حين استقبله الراحل الحسن الثاني قدمه لولي العهد سيدي محمد يومها، باعتباره الرجل الذي كان يُخبًّئ الأسلحة تحت سريره وهو بالمستشفى.. فأسعفته البديهة ليرد: “ذاك كان زمن، وهذا زمن آخر”، كان اللقاء الأول أشبه بحرب الرموز والرسائل الملغزة، لكن بعض رفاق الدرب كانوا يرون أ، عبد الرحمان اليوسفي أصبح رهينة تبرير أنه لم يعد، ولا حزبه، ذلك الرجل الذي كانه لا زمن المقاومة التي خبرها وهو ابن 19 سنة من طنجة إلى الرباط إلى آسفي ومراكش قبل أن يستقر سريا بالبيضاء ليوجه خلايا المقاومة، ولا في مرحلة الشد والجذب مع النظام منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.
وحين كان عبد الرحيم بوعبيد على فراش الموت، كان يعي صعوبة خلافته بوجود قطبين متناحرين: الأموي البدوي النقابي، واليازغي الداهية الماسك بزمام التنظيم الحزبي، لكنه خارج الإجماع، فحضر اسم عبد الرحمان اليوسفي كمنقذ من التمزق الداخلي في بداية التسعينيات، كان حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يقترب من الأسطرة، أكبر حزب معارض يضم خيرة الأطر وله تنظيم قوي وصحافة حزبية مؤثرة ونقابة وازنة وشبيبة مشاكسة.. لكن في الداخل كان أشبه ب”سلة أفاعي”، لذلك لم يلبث به المقام طويلا، حتى وجد نفسه يضرب الطاولة في غضبته الشهيرة يوم 17 شتنبر 1993، ليسافر إلى “كان” مرة أخرى، ترك حزب الوردة الذي أنهكه، وهو الذي ظل يحمل وزر عشقه في مبناه أو في منفاه كما بطل “مأساة واق الواق”: “جذير بالإنسان الذي نبت من تربة أرضه أن يحمل في بذوره خلايا جنين وطنه الكبير”، وقلب الطاولة على الحكم الذي لم يلتزم بما عاهد، إذ بعد انتخابات 25 يونيو 1992 التي أعطت أغلبية وازنة لحزبي الوحدة: الاتحاد الاشتراكي وحزب الاستقلال، تدخل ادريس البصري بشكل فاضح في انتخابات الثلث الناجي ووضع الكثير من الملح في الطنجرة… فرحل اليوسفي بشكل مدوي، وعاد إلى “كان” المدينة الهادئة المستلقية على المتوسط مدينة الطبقات الراقية، التي أصبحت فيما بعد مطبخا لتهييء الوجبة التي سيكون عليها فجر المغرب الجديد.
الزعيم الذي كادت تقتله وردة
في 8 يناير 1992 أصبح عبد الرحمان اليوسفي كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، في ظل وضع حزبي يتسم باشتداد الصراع بين جماعة الرباط التي كان محمد اليازغي قطب رحاها، وجماعة البيضاء التي كان يشكلها محمد نوبير الأموي ورموز المقاومة والشبيبة الاتحادية بزعامة محمد الساسي، كان محور الصراع هو البنية التنظيمية والمؤسسة الإعلامية، أما على المستوى السياسي العام، فقد كان جدار برلين الذي أسند عليه الاشتراكيون أحلامهم قد انهار، وحرب الخليج الثانية فككت عرى القوميين، وفي الداخل هبّة حقوقية بعد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين وعودة المنفيين وصحوة الكتلة الديمقراطية التي تأسست في ماي 1992، وبداية بروز الطلائع الأولى للإسلاميين، ووعد الحسن الثاني بتغيير الدستور وعدم التدخل في الانتخابات وعرضان ل”تناوب توافقي”، ولأن حتى النهر لا يبقى وفيا لمجراه، فقد حدثت تصدعات كثيرة داخل حزب الاتحاد الاشتراكي الذي بدا يفقد تدريجيا قواته الشعبية..
توالى الضغط الداخلي على عبد الرحمان اليوسفي الذي لم يستطع وهو كاتب أول للاتحاد الاشتراكي أن يحول الجريدة باسمه، ولا أن يضبط النقابي المنفلت نوبير الأموي، ولا الشبيبة الاتحادية بنشرتها التي بدا كما لو أنها تحولت إلى حزب داخل الحزب، لما مثلته من قوة في الخطاب وفي المبادرة.. وشحذ أنصار محمد اليازغي سيوفهم في الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي الذي تبين أنه كما لو يقف فوق ماء متجمد شديد الانزلاق، فقدمت له الدولة ورقة رابحة ـ من حيث لا تدري ـ في 17 شتنبر 1993 ليقلب الطاولة ويهاجر إلى “كان” ليعود منها بطلا، بعدما آلمته شوكة الوردة التي لم يتمل كثيرا بجمال عطرها.
اليوسفي يعود بطلا من منفاه
النار دوما يمكن الوثوق بها طالما بقيت وسط موقدها، أما إذا نشبت في السطح فلا أحد يمكن الوثوق بها، هكذا كانت الأمور تجري داخل الاتحاد الاشتراكي، لذلك غادره اليوسفي نحو منفاه الاختياري في خريف 1993، استغل محمد اليازغي الفرصة بصفته نائب الكاتب الأول، وبدأ الصراع حول التسمية والصفة، هل المقرر التنظيمي ينص على نائب الكاتب الأول أم كاتب أول بالنيابة، تضخم جسد الشبيبة الاتحادية مع الشاب الملتحي محمد الساسي، ومع البلدوزر النقابي نوبير الأموي، الذي اعتبر أن رفاق الحزب خانوه وهو في السجن بسبب عبارة “المناقطية” في تصريح لجريدة “إلموندو” الإسبانية منذ أبريل 1992، وأخذوا ينسجون ثوب التناوب على جسده، خاصة مع العرضين الحكوميين الذين قدمهما الراحل الحسن الثاني لأحزاب الكتلة الديمقراطية، ولأن أول ضحايا الصراعات هي الحقيقة، فإن لغة القوي دوما هي أشبه بكلام جديد كما يقول جورج أورويل في روايته “عام 1984″، فكل طرف كان يتصارع على تاريخ الاتحاد الاشتراكي، ويدعي امتلاك شرعية تمثيل رموزه التاريخية، ويُقصي الآخر فيما يشبه صراع الديكة..
أخذ محمد اليازغي يهمش معارضيه في الإعلام الحزبي، وبدأ الصراع على الرقعة التنظيمية يشتد، فأعلن محمد نوبير الأموي عن إضراب 25 فبراير 1994 في عز المباحثات مع القصر لترتيب التناوب التوافقي، ذهب محمد بوستة إلى الدار البيضاء حيث التقى الزعيم النقابي سرا، كما كان قد صرح لي المرحوم بوستة نفسه، دام النقاش ساعات طويلة، اقتنع معها النقابي وعقد مجلسا وطنيا استثنائيا للكونفدرالية الديموقراطية للشغل، ليعلن بضعة أيام على تنفيذ الإضراب الوطني، تأجيله إلى أجل غير مسمى، إلى أن تم رفض العرض الثاني من طرف محمد بوستة بسبب وجود إدريس البصري حيث قال للحسن الثاني: “نحن ليس لدينا أغلبية بسبب تزوير الانتخابات وثانيا أمام أخلاقي والتزاماتي بمبادئ أدافع عنها، لن يقبل مني أبدا أن أقف أمام برلمان بهذا الشكل وأقدم حكومة وبجانبي إدريس البصري الذي كنت أقول فيه كل هذا الكلام”.
أدرك الحسن الثاني أن الاشتراكيين في فرنسا وإسبانيا، والوطنيين من جبهة التحرير في الجزائر التي دخلت في حرب أهلية بسبب الإسلاميين، يحتاجون إلى رسالة سياسية، فكان عبد الرحمان اليوسفي، جوابا ذكيا على مرحلة لم تنجح مذكرات اليوسفي أن تضيء العديد من عتماتها.
أصبحت فرنسا قبلة الزعماء السياسيين المغاربة من محمد بوستة إلى نوبير الأموي ومحمد الساسي وخالد السفياني ورموز المقاومة وجيش التحرير في الحزب ومحمد بن سعيد آيت يدر وعلي يعتة.. كلها تضغط على الفارس الذي ترجل عن حصانه للعودة من جديد إلى ساحة الوغى.. وهكذا عاد اليوسفي إلى المغرب في ربيع 1995 كبطل وكمنقذ من الظلال، وفي غمرة بنائه لمرحلة شديدة الحساسية والالتباس في انتقال دولة بين ملكين، وتفتت أكبر حزب معارض، فقد أصدقاء عديدين واكتسب أصدقاء جدد وأصيب بالحسرة في أكثر من مرحلة، حكى مستشاره السابق عبد العزيز النويضي، أنه كان برفقته لما بعث له محمد السادس الملك الشاب رسالة خاطبه فيها باسم “صديقنا”، فمازحه: “ها قد أصبحت صديقا للملك”، فأجابه بنبرة حزينة: “لقد فقدت أصدقاء كيثرين”.
ألم يخاطب الاتحاديين الذين كان في حاجة ماسة إلى دعمهم في أحد اجتماعات اللجنة المركزية للحزب: “أنا بينكم، لكني أشعر بالعزلة كما لو أني وحيد”؟
العودة المظفرة وبداية الجهاد الأكبر
حين هاتفه الراحل الحسن الثاني ب”كان”، لم يمل اليوسفي شروطا، ولكنه أحرز شوطا متقدما في التوافقات مع الملك الراحل: إصلاح الدستور في 1996، انتخابات قال الحسن إنه حرم على نفسه وعلى إدارته التدخل في نتائجها، إلغاء الثلث غير المباشر، صلاحيات أوسع لرئيس الحكومة، كان سنده، الذي يثق به هو محمد عابد الجابري، قبل الفقيه البصري..
عاد عبد الرحمان اليوسفي إلى أرض الوطن في أبريل 1995 ورتب لعودة رفيقه في الكفاح الفقيه البصري في صيف ذات السنة، وأمسك الجريدتين وبدأ يعيد ترتيب التنظيم الحزبي.. لكن تركه العديد من المشاكل تتراكم دون حسم بعبارته الشهيرة كلما أخبر بقضية حارقة “صار بالبال”، التي وجدتها في رسائل سلاطين المغرب العلويين تتردد بقوة.
يوم كانت تحط الطائرة التي تقل الفقيه بمطار الدار البيضاء كان محمد البريني قد كتب افتتاحية في يومية الاتحاد الاشتراكي ينتصر فيها لعبد الرحيم بوعبيد وإستراتيجية العمل الديمقراطي ضدا على الفكر الانقلابي، وإياك أعني واسمعي يا جارة، أغضبت الافتتاحية أنصار الفقيه البصري ونوبير الأموي والشبيبة الذي رأوا في الأمر طعنة في الظهر، فقامت القيامة داخل الجريدة الاتحادية سيجبر بعدها البريني على الاستقالة، في ذات الحين الذي تجمع فيه اتحاديون غاضبون في زنقة الأمير عبد القادر منددين بذلك!
سيختار كل طرف معاركه بدقة، سيدعم الفقيه البصري جريدتي “السؤال” و”المنتدى”، اللتين أصبحتا طرفا في الصراع، فيما سيعمد تيار محمد اليازغي إلى تمرير رسائله في جريدة “أصداء”، أضحى التراشق الإعلامي حادا.. استقال أو أقيل محمد البريني واستقدم عبد الرحمان اليوسفي محمد باهي حرمة لتولي جريدة الاتحاد الاشتراكي.. وبعد موته جاءت رسالة الجابري في 1996 التي طالبت المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي بتكوين لجنة لتقصي الحقائق وفتح تحقيق في أسباب “قتل” باهي.. كان عبد الرحمان اليوسفي على علم بكل المبادرات قبل أن ترى طريقها إلى النشر والفعل، واستثمر نتائجها إلى أبعد مدى.. كان يحس أن الحزب يتفتت بين يديه، وأن صورته الأسطورية أقوى من وضعه الداخلي، وكان صديقه وخله الوفي أحمد لحليمي في الجهة الأخرى يرتب الأوراق الكبرى، فعندما كان على رأس مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد استدعى ولي العهد ليحاضر بها..
كان العديدون يحاولون أن يفهموا ما يجري، لكن الخيوط السرية كانت متواصلة ستمهد لإعلان القصر الملكي فيما يشبه المصالحة الوطنية الكبرى عن تعيين عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أول في 8 فبراير 1998.
اليوسفي وأغنية البجع
تقول الأسطورة اليونانية القديمة إن البجع يقوم بالغناء قبل لحظات من وفاته بعد أن ظل صامتا طيلة حياته، وأصبح تعبير “أغنية البجع” مجازا يرمز إلى أن المؤدي المسرحي يعي أن هذا هو آخر عرض له في حياته، ويبذل قصارى جهده لأدائه على أحسن وجه، التزم اليوسفي مع الحسن الثاني على التناوب التوافقي وقدمه إلى ولي العهد باسم “عمكم الذي كان يخبئ الأسلحة تحت سريره”، لكنه وجد صعوبة في أن يجعل حزب القوات الشعبية خلفية داعمة له..
أصبح عبد الرحمان اليوسفي متكتما، حتى داخل المكتب السياسي ومع رفاقه في الكتلة، وجد صعوبات لا حصر لها، هناك وثيقة موقعة بين بوستة وبوعبيد تؤكد أن الحزبين معا إما أن يكونا في المعارضة معا أو في الحكومة، وكانت الداخلية قد قزمت حزب الاستقلال في انتخابات 1997، لأن الحسن الثاني لم يهضم رفض بوستة لعرضه لقيادة الحكومة، اجتمعت اللجنة التنفيذية وأخرجت بيانا ناريا يؤكد الطعن في الانتخابات المزورة، وعدم تزكية أي مؤسسات ناتجة عن هذه الانتخابات.. لذلك مباشرة بعد مغادرته للقصر الملكي أثناء تعيينه هاتف محمد بوستة وزاره في إقامته بحي السويسي، أحس اليوسفي أنه يؤدي أغنية البجع وكان قد أرسى كل شيء على رقعة الشطرنج: التمكن من الآلة التنظيمية، ضبط المؤسسة الإعلامية، جعل نقابة الأموي وشبيبة محمد الساسي كخليفة داعة، وجعل الفقيه البصري وتيار المقاومة وقدماء المعتقلين السياسيين إلى جانبه، مع عدم بتر ذراع محمد اليازغي القوية، لأنه يحتاج إلى كل الأذرع لتقوية موقعه التفاوضي مع القصر أثناء تشكيل حكومة التناوب التوافقي عام 1998، كان يعرف أن الأمر يتعلق بدوره الأخير على مسرح السياسة وأن الزمن يتغير بسرعة..
نجح اليوسفي بفضل ذكائه ونبل رجل وطني من طينة محمد بوستة في أن يدفع حزب الاستقلال إلى نسخ موقفه المقاطع في مؤتمر وطني ويترجل الرجل تاركا المكان لعباس الفاسي، وأعلن عن حكومة التناوب التوافقي في 14 مارس 1998.
من زعيم حزب إلى رجل دولة
تذكروا أننا في نهاية التسعينيات: عالم يتفكك ونظام عالمي جديد يصعد، تقرير أمريكي حول صحة الحسن الثاني، تقرير البنك الدولي حول السكتة القلبية، الكتلة الديمقراطية والموجة الحقوقية وظهور الصحافة المستقلة، ونخبة مصابة بالترهل والعياء، وعينها على غنائم النضال، والكبار يرحلون تباعا، وهناك رجل وطني محط آمال كبرى لأمة، اسمه عبد الرحمان اليوسفي، سيحول كل تعويضاته إلى صندوق اجتماعي لدعم القرى الهامشية، لكنه بالتدريج سيجد نفسه يتحول من فرض شروط التغيير إلى تغيير الشروط، وكان لا بد أن يكون حزب الاتحاد الاشتراكي قربانا لمرحلة عصية عن التملك، لقد اختار اليوسفي عضد الدولة وانتقالها الصعب وحافظ على طهرانيته كرجل فوق الجماعة الحزبية، ولبّى نداء الوطن، لذا تعرض للطعنات من كل جانب، حتى من المقربين الذين اعتبروه أنه لم يذهب إلى أبعد مدى، حتى أعمدة هرقل.
عصابة الأربعة وخصام الأموي ورسالة الفقيه البصري
منذ 1996 تكونت جبهة معارضة داخل الاتحاد الاشتراكي، تضم أنصار الأموي، من النقابيين الشرسين، وعصابة الأربعة التي تتكون من محمد الساسي، ومحمد حفيظ، وخالد السفياني ونجيب أقصبي، ومن خارج الحزب يوجد الفقيه البصري برمزيته التاريخية، عارض الساسي ورفاقه قول نعم لدستور شتنبر 1996، وقبول اليوسفي لتعيينه وزيرا أول دون العودة إلى الحزب، وانطلقت احتفالية صاخبة تنعي موت حزب القوات الشعبية، والبعض أعد القداس الجنائزي لعبد الرحمان اليوسفي.. لكن الرجل الذي خبر المنافي والسجون وزهد في مغانم الدنيا، لم يستسلم للطعنات التي كانت تأتيه من رفاق الدرب، ومن اليمين الموجه عن بعد والذي أطلق عليه “جيوب مقاومة التغيير”.. وفي الجهة الأخرى ألاعيب ادريس البصري الذي أفشل لقاء اليوسفي بعمال وولاة المملكة، وهذه الاحتجاجات التي جعلت المعطلين يسكنون في شارع محمد الخامس قبالة البرلمان، ولا في انفلات وزارة الداخلية ذات جمعة سوداء لضرب المحتجين قبل أن تعتذر الحكومة.. إنه مغرب الشيء ونقيضه..
أحس الأموي أن السياسيين من أبناء جلدته يتاجرون مع إدريس البصري بنضالات نقابته، فقرر أن يتفاوض بنفسه ويقبض الثمن، لذلك استضاف ادريس البصري في مؤتمر نقابته، الذي كان مزلزلا، لكن اللغز الأكبر هو رسالة الفقيه البصري المسربة إلى الصحافة في دجنبر 2000، ما سرها؟
هناك الكثير من الضجيج، لكن هناك القليل من الحقائق أيضا، هل من مصلحة الفقيه البصري تسريب رسالة قوية إلى ثلاث جرائد في زمن ملتبس؟ ما هو الربح السياسي الذي سيجنيه وهو جزء من القضية / موضوع اتهام؟ هل سربتها جهات نافذة معارضة للتناوب وتريد إحباط مسار اليوسفي في استقطابه تعاطف الحسن الثاني؟ كيف انتقلت الرسالة من يد الراحل عبد الغني بوستة السرايري مركز سر الفقيه البصري إلى محمد السغروشني الذي يترأس اليوم لجنتين وطنيتين في الدولة إلى جريدة “لوجورنال” في بدء الأمر؟ حتى الآن الذي سرّب الرسالة هو الذي يعرف الألغاز الكامنة وراءها، أما ما جناه اليوسفي فهو قراره الصّادم بمنع ثلاث جرائد دفعة واحدة، وحدوث تباعد بينه وبين الفقيه البصري وانفراط الود مع شبيبة حزبه وشرخ كبير داخل حزب القوات الشعبية.
تشرذم الاتحاد ورسالة بروكسيل
ظلت حكومة اليوسفي تتنفس برئة واحدة، بسبب تعطل رئة الحزب الذي سيتفرق شذر مذر، وينقسم مللا ونحل، سيخرج الأموي بزورق المؤتمر الوطني الاتحادي بعد أن نجح في تقصيل مركزيته النقابية على المقاس و”تطهيرها” من امتدادات محمد اليازغي، وخرج تيار الوفاء للديمقراطية وأعلن الفقيه البصري أنه لم ينتم يوما للاتحاد الاشتراكي وإنما كان مؤسسا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وغضب الاتحاديون القدامى وانزووا في مراكز الظل، يتحسرون على ما حصل للحزب الذي أصبح بدون قوات شعبية، ويحملون المسؤولية لرفيق دربهم الذي علقوا عليه كل الآمال، وعبد الرحمان اليوسفي ظل مثل جبل لا ينكسر لقوة الريح من أي مكان هبّت.. وكانت الضربة القاضية، حفل شاي أعده لتكريم ادريس البصري بمقر الوزارة الأولى.. كان للمخزن دهاؤه.. والرجل كرم ضيفه بالحلوى والشاي وكلام المجاملة حول الخدمات الجليلة، والحقوقيون في زنقة الأميرات ينددون بتكريم الجلاد من طرف رجل وطني كبير.. كان اليوسفي يعي أنه أصبح رجل دولة، أكبر من أي جماعة سياسية، وكان الأمر أشبه بحادثة سير لكنها بكلفة باهظة..
بعد انتخابات شتنبر 2002، سيعين الملك محمد السادس إدريس جطو وسينحت اليوسفي عبارة ستصبح تاريخية هي “الخروج عن المنهجية الديمقراطية” فيها الكثير من شاعرية الحلم وقسوة الواقع، واليوسفي كقانوني يعي أن الدستور الذي صادق عليه حزبه لا يلزم الملك بتعيين الوزير الأول من الحزب الفائز في الانتخابات، تلقى الصفعة، وانتظر حتى لقاء بروكسيل ليردها بما يليق، بلغة حقوقية وسياسية، واستقال من الجريدة ومن الحزب ومن السياسة، وحين نشر سيرته “أحاديث فيما جرى” كان علينا حتى اليوم، وقد رحل إلى دار البقاء، أن نملأ الكثير من البياضات التي تركها ونقط الحذف باجتهاداتنا، كل حسب هواه..