قبل أشهر قليلة فقط سما بنا نحن المغاربة إلى عنان السماء، وبِتنا معه أمة رائدة تتبوأ مكانة الرواد من الأمم في عالم كرة القدم، ولما دخلنا بطولة إفريقية يضرب لنا الجميع ألف حساب ويمنحوننا اللقب على الورق وفي معادلة الحسابات، هوى بنا إلى أسفل سافلين وخرجنا معه من الباب الضيق من بطولة باتت كالحلم، وحتى أعتى وأصعب من حلم كأس العالم الذي كُنا قاب قوسين أو أدنى منه إلى وقت قريب!
هو ذاك المدرب الوطني وليد الرگراگي، مُروض “أسود الأطلس” الذي عرف كيف يروضهم بمهارة فائقة، فأرعب بهم المنتخبات الأوروبية والأمريكية، وكان على وشك أن يدون اسمه واسم المغرب في دفتر تاريخ المستحيلات، عندما بلغ النصف نهائي لبطولة كأس العالم بقطر 2022، وكنا قريبين من تحقيق إنجاز غير مسبوق عربيا وإفريقيا وحتى إسلاميا، لولا أن واجهنا منتخبا فرنسيا صنديدا وتحكيما غير عادل، فأقصينا من المربع الذهبي، ولكنه كان إقصاء بطعم الفاتحين الأبطال الذين كانوا أول من وضع أقدامه من العرب والأفارقة في مصاف الأربع الأقوياء في بطولة كأس العالم..
الرگراگي منذ أن طوينا صفحة المونديال الأخير، ومباشرة عبد ذاك الفوز النادر على منتخب الصامبا (البرازيل)، وقد كان “أسود الأطلس” ما يزالون بحماسة المونديال، كانت نتائجه مع المنتخب المغربي متذبذبة، فلاحظنا كيف انتصرنا إما بصعوبة ملحوظة، في مباريات، أو انهزمنا باستغراب واندهاش، أمام منتخبات إفريقية!
حينئذ انتبه كثيرون إلى خطورة الأمر، وحذروا من أن اللعب مع منتخبات عالمية هو أسهل بكثير من اللعب مع منتخبات إفريقية حتى ولو كانت من الدرجة الثانية أو الثالثة حتى، لأن اللعب في إفريقيا هو كاللعب بالنار أو يشبهه كثيرا، لأن الفرق تعتمد بالأساس على لياقتها البدنية العالية وتستغل أجواءها المناخية الصعبة المتأقلمة معها أكثر منا، هذا أولا، وثانيا لأن المنتخبات الإفريقية الشقيقة التي سنقابلها تعرف مسبقا أنها تلعب أمام منتخب لعب النصف نهائي في كأس العالم، وهو ضمن المنتخبات الـ 11 الأولى في العالم، حسب تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم، وأي انتصار على هذا المنتخب، يعتبر شَرفا ونصرا عظيما لأي منتخب كان، ولكن الأهم هو أيضا مكسبٌ مهِم لأنه سيُجمّد نقط المنتخب المغربي المتقدم في التصنيف الدولي، وسيمنح نقطا إضافية للمنتخبات التي تواجهه ويقوي غلتها في تصنيف “فيفا”، وهذا وحده مبرر كاف ليكون الخصوم شرسين، وهو ما حصل في كأس أمم إفريقيا الكوت ديفوار 2023..
ورغم المستوى المتأرجح والمتذبذب لـ”أسود الأطلس” في الأشهر الأخيرة، فإن التفاؤل في انتفاضة الأسود في “المونديال الإفريقي”، بالكوت ديفوار، ظل يغمر غالبية المغاربة، ولو أن البعض القليل جدا من المراقبين والمحللين الرياضيين، كان يحذر بإلحاح شديد مِن مغبة الاستهانة بالخصوص في “الكان”، في الوقت الذي كان منسوب الحماس الزائد عند اللاعبين والمشرفين التقنيين على “كتيبة الرگراگي”، يُقوي أكثرَ ثقتَنا في فريقنا بأنه سيمنحنا في هذه الدورة اللقبَ الذي نبحث عنه منذ سنة 1976 ليجاور اللقب الوحيد الذي تُوجنا به في تلك السنة الذهبية مع النجوم حَسَني الذكر الهزاز وفرس واعسيلة والشباك وغيرهم من الأبطال الآخرين الذين منهم قضى نحْبه ومنهم من ينتظر ولازال معنا من المنتظرين لنيل كأس إفريقية ثانية أصبح من المستحيلات..
ما علينا.. بْدات كأس الأمم الإفريقية وجاء الانتصار الأول بثلاثة أهداف لِصفر ولو أن الغلة كانت ستكون أكبر وأكثر لو كان الأداء أقوى، علما أن الفريق الخصم (تنزانيا) أكمل المباراة بـ10 لاعبين فقط بعد طرد أحدهم، ثم جاءت المباراة الثانية ضد الكونغو الديمقراطية فتعادلنا بهدف لمثله، وكان الأداء غير مقنع للمرة الثانية على التوالي، أضف إلى ذلك سقوطَ المدرب الرگراگي في فخ استفزازات لاعبي الفريق الخصم، مما جر عليه عقوبة مجانية من لجنة الانضباط التابعة للكونفدرالية الإفريقية لكرة القدم (كاف) بالتوقف أربع مباريات، ما جعله يتابع من المُدرجات مبارتَنا الأخيرة في منافسات المجموعات أمام زامبيا والتي انتهت بهدف لصفر بأداء متواضع جعل غالبيتنا يدخل في دوامة من علامات الاستفهام والريب والشك عما كان بإمكاننا الذهاب بعيدا في هذه التظاهرة، بهذا المنتخب المفكك الخطوط، والتائه في الملعب، والغريب والبعيد كل البعد عن نسخة منتخب المونديال، علما أن الغالبية من اللاعبين هم أنفسهم الذين قادوا ملحمة مونديال قطر!
ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير ومعها ورقة التوت التي سقطت وفضحت معها مستوانا الكُروي على الصعيد الإفريقي؛ فكانت مقابلتنا مع جنوب إفريقيا ذاك المشروب/الدواء الزعاف الذي كان علينا أن نبتلعه لنعود إلى وعينا وواقعنا الذي لا بد لنا من تسلُّح وسلاح أقوى وأنجع لنواجهه..
ولمواجهة واقعنا الإفريقي الكُروي، فإن مُروض “الأسود”، الذي مهما حاول المغاربة أن يغفروا له ويتجاوزوا عنه الإخفاق المُدوي في الـ”كَان” الذي كان في المتناول الظفر به، فإنه بأدائه الباهت والمرتبك، قد خدش تلك الصورة الراقية والرائعة التي طبعها على أفئدة هؤلاء المغاربة في وقت قياسي؛ أولا بافتقاده لتلك العفوية في الحديث والتحدث للإعلام بـ”نية” خالصة، دون تصنع أو تنطع أو تنظير في الوطنية والقومية والعروبة وغيرها من الأمور البعيدة عن الرياضة، وثانيا لأنه يتضح لنا ونحن نتابع مباريات “كان الكوت ديفوار”، مدى حجم الأخطاء والاختيارات الكارثية التي تبناها المدرب في تشكيلاته، فحوّل منتخبا تنافسيا هو الرابع عالميا، إلى منتخب يحمل فقط اسم “الأسود” وكان تائها في الميدان بدون هوية ولا أداء مقنع وأقرب إلى الشبح..
هذه حقيقة لا ينبغي إخفاؤها بعيدا عن العاطفة، وهي ليست دعوة بالضرورة للانفصال عن الرگراگي، ولكنه فقط جرس إنذار لتحمل المسؤوليات وتصحيح ما يمكن تصحيحه بعد التخلي طبعا عن الشعور بـ”الأنا” المتعالية، حتى لا نسقط مستقبلا مثل سقطة الكوت ديفوار!
والسلام