سؤال الجدوى الذي طالما لاحق التقارير المنجزة من طرف المجلس الأعلى للحسابات يمتد أيضا للتقارير التي تصدر عن المفتشية العامة للإدارة الترابية حول الخروقات و الاختلالات التي تغرق فيها بعض المجالس الترابية، والتي تفسر الوضع الكارثي لمعظم المدن المغربية.
اللافت أن المجلس الأعلى يتقاطع مع المفتشية في تتبع خيوط الفساد المتغول الذي أصبح آلية تتحكم في طريقة تسيير المجالس المنتخبة، لكن نتيجة هاته الرقابة المتعددة تبقى إلى الآن جد هزيلة، في ضل عدم تفعيل مضمون هذه التقارير التي يتعين أن تتجاوز سقف النشر إلى الإعفاء و المتابعة.
“فزاعة” لا تخيف
السؤال يفرض نفسه اعتبار لعدد و مصير التقارير الذي أنجزت في وقت سابق، والتي تابع الرأي العام حجم الفساد الذي قطر منها، دون أن نرى أي انعكاس قضائي لها في تناقض صارخ مع الخطاب الرسمي الذي يؤكد على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
لقد سبق لعدد من رؤساء الجماعات أن اشتكوا من تعدد الهيئات المتدخلة في مجال التفتيش والرقابة، ومنها المجلس الأعلى، ووزارة المالية والمفتشية العامة للإدارة الترابية.
كما طالبوا أيضا بوضع حد للشكايات المجهولة التي أصبحت وسيلة لتصفية الحسابات بين عدد من أصحاب المصالح والشركات والمقاولين الذي يتصارعون حول غنائم الصفقات انطلاقا من المجالس الجماعية.
لكن هذه الشكوى تبقى “حقا أريد به باطل” من طرف من في “كرشهم عجين”.
الغريب أن التباكي على الإفراط في الرقابة والافتحاص لا يحرج رؤساء الجماعات بالقدر ذاته الذي يجعل علامات استفهام كثيرة تلاحق أداء الهيئات الرقابية التي تستنزف أموالا مهمة، لتنجز تقارير ليس لها أي مفعول في مواجهة الفساد الذي طور من وسائل اشتغاله، ونجح في تكوين شبكة متداخلة من المصالح، والعلاقات، التي تفسر كيف بقيت عدد من الوجوه، والأسماء، التي راكمت ثروات مشبوهة متصدرة للمشهد الأمر الذي يحيل على انتقائية، وبصمات سياسية في التعامل مع مثل هذه الملفات، وهي انتقائية فرضتها في بعض الأحيان سياقات طارئة.
العنوان الأبرز لذلك يبقى ملف جامع المعتصم عمدة مدينة سلا والذي لا زال يراوح مكانه لدى قاضي التحقيق طوال 10 سنوات بعد أن تم إخلاء سبيل جميع من اعتقلوا بشكل مفاجئ وبعد تحقيقات مارطونية دون أن يجد الملف طريقه للحسم سواء بالحفظ أو المتابعة.
وإذا كان ملف جامع المعتصم قديما نسبيا ومرتبطا بالسياقات والتطورات السياسية التي أفرزها حراك 20 فبراير، فإن ملفات عدد من الجماعات تعد عنوانا طريا على طبيعة التعامل مع تقارير المفتشية العامة للإدارة الترابية.
اليوم أصبحت جمعيات حماية المال العام هي من تتولى المبادرة، في حين تكتفي المفتشية العامة أو المجلس الأعلى بنشر التقارير فقط.
لكن اللافت أن تحريك المتابعات بعد شكايات الهيئات الحقوقية يجعل عدد من القضايا المرتبطة بتبديد المال العام تراوح مكانها لسنوات إما لدى الفرقة الوطنية للشرطة القضائية أو في لدى قاضي التحقيق وغرف جرائم الأموال.
نفس العطب يلاحق أداء المجلس الاعلى للحسابات الذي ورغم الارتقاء به إلى مستوى هيئة عليا لمراقبة المالية العمومية للدولة في إطار دستور 2011. فإنه ظل مثل فزاعة لا تخيف.
واقع يفسر الدعوات الحقوقية المطالبة بإنشاء قضاء متخصص في الجرائم المالية ينضاف الى التنظيم القضائي للدولة، مع حذف الشرط القانوني المتعلق بإحالة الملفات ذات الشبهة الجنائية برسالة من الوكيل العام للمجلس إلى وزير العدل سابقا، ورئيس النيابة العامة حاليا، وأن تصبح المتابعات تلقائية فور نشر التقارير للعموم ووضع جدول زمني معروف لعمليات المراقبة.
ثلاجة كبيرة
والواضح أن سؤال الجدوى تحول إلى لازمة ترافق تقارير المفتشية العامة وبالأخص المجلس الأعلى للحسابات، هذا رغم أن المسؤولية تقع على باقي الأطراف التي يتعين عليها التحرك من اجل تحويل التقارير إلى آلية لربط المسؤولية بالمحاسبة، عوض التعامل معها كروتين سنوي يدوم مفعوله ليومين بعد نشرها في وسائل الإعلام في انتظار تقرير جديد.
ويبقى أن التعامل الرسمي الفاتر مع توالي صدور عشرات التقارير التي تعج بالاختلالات والخروقات التي تنطوي على هدر واستنزاف للمال العام دون أن الاعلان عن المتورطين، هو دليل إدانة على تكريس ممنهج للإفلات من العقاب، أمر حدث ويحدث في ظل حكومة تدعي محاربة الفساد.
كما ان استمرار نشر مثل هذه التقارير دون أي تفاعل أو تحرك في اتجاه المحاسبة لا يعدو أن يكون هدرا للمال العام، ومضيعة للوقت، واستفزازا مجانيا للمغاربة الذين باتوا يعاينون كيف أن المال العام أصبح مستباحا، وكيف تغرق عدد من المجالس، و مؤسسات الدولة في العجز والفضائح، وكيف يتم التصرف فيها كضيعات خاصة دون أي جزاء.