يبدو أن الجليد بين الرباط وباريس بدأ في الذوبان بعد شهور من الأزمة الصامتة حينا والمعلنة أحيانا.
أزمة وصلت إلى حد إصدار تكذيب من “مصدر رسمي” مغربي لتصريحات وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاترين كولونا، والتي قالت فيها إن هناك زيارة مبرمجة للرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون خلال الأيام المقبلة، وكانت تقصد مع مطلع سنة 2023.
أول أمس، وبعاصمة الأنوار تم استقبال الأميرات شقيقات الملك من طرف السيدة الأولى في فرنسا؛ وبينما اكتفت الرباط عبر وكالتها الرسمية بنشر الخبر مؤكدة أنه “بتعليمات من الملك”، وأن هذه المأدبة تندرج في إطار “استمرارية علاقات الصداقة التاريخية القائمة بين المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية”، فإن باريس كانت أكثر سخاء في إعطاء المعلومة، عبر صفحة قصر “الإيليزي” على موقع انستغرام، مرفِقة الخبر بصورة للأميرات ولحرم الرئيس الفرنسي، مؤكدة أنه “استمرارا لعلاقات الصداقة التاريخية بين فرنسا والمملكة المغربية، استقبلت السيدة بريجيت ماكرون صاحبات السمو الملكي الأميرات للا مريم وللا أسماء وللا حسناء”، وأضافت الرئاسة الفرنسية “في هذه المناسبة، حضر الرئيس إيمانويل ماكرون للترحيب بهن”، مشيرة إلى أن رئيس الدولة “تحدث مؤخرا هاتفيا مع صاحب الجلالة محمد السادس”.
الجانب الفرنسي وهو يشدد على التنويه بالمكالمة الهاتفية بين ماكرون ومحمد السادس، فإنما يريد الإعلان عن نهاية مرحلة أزمة، واحتقان، في العلاقات بين باريس والرباط، امتدت منذ ما يقارب الثلاث سنوات.
أزمة عرفت في بعض فصولها ارتفاعا غير مسبوق لجرعة التوتر إلى درجة التهجم الإعلامي والسياسي على الدولة المغربية، من قبل نخبة فرنسية يبدو أنها كانت تتناغم في خرجاتها مع حنق وغضب حكام قصر الإيليزي على الرباط، لاسيما خلال فاجعة الزلزال الذي ضرب المغرب في سبتمبر 2023.
حينها رفضت المملكة مساعدة الدولة الفرنسية، من خلال إصرارها على حصر المساعدة في دول بعينها تربطها معها علاقات وثيقة، هي الإمارات العربية وقطر واسبانيا وبريطانيا.
جاء ذلك بعد أن وجه الرئيس الفرنسي خطابا مباشرة إلى الشعب المغربي يعرب فيه عن تضامنه معه، وهو ما فُسر بأنه تصرف أرعن من رئيس دولة إزاء شعب ودولة أخرى، يفتقد إلى اللباقة واحترام السيادة الوطنية !
وفي الوقت الذي كان الزلزال الأليم فرصة مواتية لباريس بأن تُفعّل فيها سياسة “دبلوماسية الكوارث” والتقرب من الرباط، فضّل الساسة الفرنسيون سياسة التعالي والغطرسة فبدَوا كأنهم يبتزون مملكة محمد السادس، لاسيما بعدما كشفت باريس، عبر وزيرة خارجيتها، بأن إمانويل ماكرون حاول الاتصال بمحمد السادس خلال أزمة الزلزال لكن الأخير لم يرد.
حينها قدمت المسؤولة الفرنسية تبريرا لعدم رد العاهل المغربي، وهو تواجده في اجتماع لخلية الأزمة المكلفة بتتبع الكارثة الطبيعية، لكنه تبرير بقدر ما يظهر مدى تبرم وقلق الرباط من حاكم الإيليزي، فإنه يعكس في المقابل الارتباك الكبير الذي وجد فيه الفرنسيون أنفسهم في خضم الأزمة التي نشبت مع الرباط، وذلك بسبب اصطدامهم بموقف غير مألوف من نظام دولة كانت مستعمَرَة سابقة لهم، وظلت تعتبر حليفا “لطيفا” (كْيوت)، لا يأتيه منها عصيانٌ أو تمرد!
خلال الأزمة في العلاقات المغربية الفرنسية تطرقت تقارير عن أكثر من مشكل بين البلدين؛ بداية من أزمة التأشيرات “الفيزا” وقرار فرنسا تخفيض عددها للمغاربة على خلفية ملف الهجرة غير الشرعية، وهو ما ردت عليه الرباط بأنه “قرار غير مبرر”، ولو أنها تفهمت الأمر وقللت من تأثيره في العلاقات الثنائية، بعدما صرح ناصر بوريطة خلال لقاء في الرباط مع نظيرته الفرنسية بأنه “قرار سيادي” لفرنسا، بالرغم من أنه خلف غضبا شعبيا وحقوقيا في المغرب.. ثم ملف التجسس بالبرنامج الإسرائيلي “بيغاسوس”، الذي اتُّهمت فيه الأجهزة المغربية باختراق هواتف مسؤولين الفرنسيين وعلى رأسهم ماكرون، وهو ما نفته بشدة الرباط؛ إلى الحملة التي قادها نواب فرنسيون مقربون من الرئيس داخل البرلمان الأوروبي ضد مصالح المغرب..
بيد أن موضوع الصحراء المغربية، كان وفق كثير من المراقبين، هو حجر الأساس في الأزمة، بحيث ظلت الرباط تأمل في أن تحذو باريس حذو واشنطن التي تبنت في ديسمبر 2020 موقفا غير مسبوق باعترافها بمغربية الصحراء. وبينما اكتفت باريس بترديد لازمة “الحكم الذاتي في الصحراء كأساس ذي مصداقية” قابل للتطبيق لإنهاء هذا الصراع، بالموازاة مع تزايد اهتمام الفرنسيين بتطوير العلاقات مع الجزائر، كانت تقارير مقربة من صناع القرار في الرباط تصدُر تواليا مُذكّرة بما جاء في أحد خطب الملك عندما ربط تقوية علاقات مملكته بأي بلد في العالم بموقف هذا البلد من قضية الصحراء المغربية..
والمؤكد أن الإيليزي قد قرأ واستوعب جيدا اليوم “ميساج” الملك محمد السادس، ولذلك تأتي هذه المؤشرات تباعا من باريس، وقد سبقتها تصريحات سفيرها في الرباط الذي أكد على وعي بلاده بأهمية قضية الصحراء عند المغاربة، وقبلها تصريحات وزير خارجية فرنسا الجديد ستيفان سيجورني الذي بالرغم من أنه وهو من كان يقود الحملة ضد المغرب في البرلمان الأوروبي، إلا أنه أرسل رسائل ود إيجابية تنم عن رغبة في طي صفحة الخلاف مع المملكة.
أضف إلى ذلك أن التحولات الدولية والإقليمية والانسحاب الفرنسي الدراماتيكي من دول الساحل الإفريقي، في مقابل تموقع المغرب كفاعل إقليمي استراتيجي بعكس خصمه الجزائر التي وضعت نفسها في حصار بسبب أزماتها المتفاقمة مع دول الطوق، كلها معطيات جعلت الفرنسيين يدركون أخطاءهم جراء استمرارهم في التفريط في العلاقات مع المغرب الآخذ في ترسيخ أقدامه في إفريقيا كلاعب مؤثر يمكن الرهان عليه.