القليلون فقط هُم من انتبهوا إلى “طبيعة” البلاغ الملكي الذي عممته الوكالة الرسمية للأخبار، بمناسبة تهنئة فاطمة الزهراء المنصوري إِثر انتخابها منسقة للقيادة الجماعية للأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة، وهو البلاغ الذي لا يمكن فهمه إلا من خلال ما حبلت به كلماته وجُملُه وفقراته العديدة التي تجعله بلاغا ملكيا غير عادٍ.
ما بين فبراير 2024 وفبراير 2020 عندما انتُخب عبداللطيف وهبي على رأس حزب “الجرار”، كانت التهنئة الملكية فاتِرة و”أصغر” من تهنئة المنصوري، كمًّا وكيْفًا، بل حتى إن القصر لم يُسارع إلى استقبال “الوافد الجديد” ليقود “الأصالة والمعاصرة”، إسوة بما دأب ملك البلاد على القيام به مع القادة الجدد للأحزاب الكبرى، والأجدر مع زعيم جديد لحزب يعرف القاصي والداني أنه خرج من رحم السلطة، وانتظر وهبي المنتخب أمينا عاما، الردَّ على طلب وجّهه إلى الديوان الملكي ليحظى بتشريف الاستقبال، وهو ما لم يفعله القصر إلا بعد نحو شهر من نهاية المؤتمر الرابع للحزب، ويصدر بعد الاستقبال بلاغا قصيرا جدا.
وفي التهنئة الملكية للمنصوري نستشف من بين سطور البلاغ الملكي ما هو أكثر من التهنئة والتبريك، بحيث نجد أنفسنا بصدد تقييم وتنقيط واستحسان لمسار امرأة سياسية استثنائية؛ فهي “تحظى بتقدير أعضاء وهيئات الحزب”، لأنها “تدافع عن مبادئه سواء كمناضلة انخرطت في مشروعه منذ تأسيسه، أو كرئيسة لمجلسه الوطني، أو كمنتخبة باسمه”، كما قال الملك، قبل أن يضيف أنها تمثل أيضا “المقام المستحق الذي أضحت تتبوأه المرأة المغربية”، وذلك بما تتحلى به مِن “كفاءة وتجربة وما هو معهود فيها من تشبث مكين بمقدسات الأمة وثوابتها” (..).. إنها كلمات وعبارات لا يمكن أن تصدر إلا في رجل دولة/امرأة دولة، ولعلها تسير في اتجاه تزكية هذه “الزعيمة” -ربما- لاحتلال منصب حكومي أكثر وأسمى من مجرد وزيرة، كما هي عليه اليوم، وإنّ غداً لناظره لقريب!
المرأة الحديدية.. بنت الباشا!
يصفها الناس وجانبٌ كبير من المهتمين بالحقل السياسي ببلادنا، بأنها “المرأة الحديدية” بحزب الأصالة والمعاصرة؛ والواقع أنهم لم يخطئوا الوصف والتوصيف، لأن فاطمة الزهراء المزدادة في يوم من أيام سنة 1976، في وسط عائلي محافظ بمنطقة الرحامنة، والتي درست في مدارس لاميسيوla mission (مدارس البعثات الدبلوماسية) بمراكش وأكملت دراستها العليا في فرنسا وأمريكا، وهو ما مكّنها من امتلاك أدوات علمية وقانونية تحديدا، رسختها وصقلتها أكثر في ممارسة مهنة المحاماة، فإنها بالمقابل أخذت عن والدها الراحل، عبد الرحمان المنصوري المحامي والنقيب وباشا المدينة الحمراء في فترة الثمانينات والدبلوماسي والسفير والرئيس المنتدب لنادي الكوكب المراكشي لكرة القدم، أخذت منه جينات دهاء وخطابة المحامين الحذِقين، وكياسة ولباقة الدبلوماسيين المُتمرسين، وصلابة وقوة رجال السلطة الصارمين !
وعندما يبرز اسمها في أواخر 2019 كاسم أنثوي، وسط الشد والجذب بين فريقين متنازعين من الرجال في قيادة الحزب، على عهد ولاية عبدالحكيم بنشماش، ثم يبرز اسمها ثانية وبقوة قُبيل المؤتمر الخامس للحزب، كاسم قادر على التنافس ضد “وهبي” على الزعامة، فإن ذلك ليس صُدفة وليس منةً وهَبها مناضلو الحزب لسيدة ذات جاه وحسب ونسب وابنة باشا المدينة الحمراء، وإنما هو نتيجة عمل دؤوب جعل بنشماش سابقا ينسحب لأنها اصطفت إلى جانب “وهبي” وليس إلى جانبه، كما جعل “وهبي” الذي ملأ الدنيا وأقعدها، بتصريحاته المستفزة لملايين المغاربة ولآلاف الأساتذة ومثلهم من المحامين، يكتم أنفاسه، ويعرض عن الترشيح حتى آخر لحظة، قبل أن يبدو كالحمَل الوديع مع رفاقه في الحزب وكالسياسي الزاهد في المنصب وفي الولاية الثانية، بينما كانت حاسته السادسة قد أنباته النبأ اليقين بأنه إذا ما قرر الترشح فإن بنت الباشا ستُكبّده خسارة فادحة، وهي التي احتشد إلى جانبها قياديون وقواعد المناضلين!
القيّادة الناعمة للجرّار!
يُسِر أعضاء من الحزب بأن “للا فاطمة الزهراء” تستحق قيادة الحزب، وهو ما خلص إليه المؤتمر الخامس، أخيرا، حتى ولو كانت الصيغة ثلاثية، ويكفي أن تكون هي المنسقة للقيادة الجماعية للأمانة العامة، ليقتنع الموالون لها بأنها هي “الزعيمة” التي ظل مناضلو الحزب منذ تأسيسه يأملون أن يروا مثلها كبرُوفايل ناعم لكنه يستطيع قيادة “الجرّار” لحرث أرض سياسية جرداء، ويقود التنظيم الحزبي الذي راهن عليه مؤسِّسوه ليَعصف بالإسلاميين وهم في أوجِهِم فعصفوا به، وعصفوا بقائده حينئذ حسن الذكر إلياس العماري، الذي كان كل رصيده هو “التشناق” (بمعنى الخِصام وليس السمسرة) في السياسة، و”التسنطيح”، وبيع الوهم لمُسخّريه، ثم خاب ظنّ صانعي “الجرّار” في القيادة اللاحقة (بنشماش ووهبي)، فلم يظفر بالمرتبة الأولى في الانتخابات بالرغم من كل الإمكانيات المرصودة له؛ ولذلك فلربما آن الأوان بأن يُسند ديريكسيون (مقود) الجرّار إلى الأيادي الناعمة، التي حتى إذا لم تستطع الوصول إلى حيث يريدون الوصول، فعلى الأقل لن تكون هناك حوادث سير مميتة في الطريق..
فهل باتت “بنت الباشا” قاب قوسين أو أدنى مِن أن تصل إلى حيث يريدون الوصول، وهو الفوز بالاستحقاقات الانتخابية المقبلة، وبعدها لكل حادث حديث، وقد يكون الحديث حينذاك عن أول رئيسة حكومة في مملكة محمد السادس، الذي وصفها حتى قبل ذاك “الحادث” المحتمل الوقوع، بالتي تتحلى بـ”كفاءة وتجربة وما هو معهود فيها من تشبث مكين بمقدسات الأمة وثوابتها”؟!