عندما أعلن القيادي عبدالقادر اعمارة، بداية شهر نوفمبر 2023، انسحابه من حزب “العدالة والتنمية”، بالموازاة مع بيان للأمانة العامة مُوقَّع باسم الأمين العام عبدالإله بنكيران، ربط بين الزلزال المأساوي الذي ضرب المغرب في 8 سبتمبر الماضي وبين ما وصفه بـ”الذنوب والمعاصي بما في ذلك في الحياة السياسية”، فسّر كثيرون خروجَ اعمارة بأنه قفزٌ من سفينة الحزب الذاهبة إلى الغرق القاتل، لاسيما في ظل تراجع رهيب في شعبية الحزب، وكذلك بوجوده على حافة الإفلاس المادي، والتشظي التنظيمي الداخلي.
التلميحات التي ساقها عبدالقادر عماره وهو يغادر حزب “بيجيدي”، والتي أومأ فيها إلى تراجع التنظيم على مستوى النضال السياسي، أرجعها مُطلّعون على المطبخ الداخلي لـ”المصباح” لسيطرة مطلقة وديكتاتورية حزبية لبنكيران غير مسبوقة على دواليب التسيير.
حدث ذلك منذ أن عاد لقيادة الأمانة العامة بعد السقوط المدوي في انتخابات 2021، تسلط يعد السبب وراء انتفاضة القيادي اعمارة، لكن هناك مؤشر آخر أيضا، وقوي، جعل آخرين يَنطّون من على مركب الحزب، وهو الإفلاس الذي باتت عليه خزينة الحزب المالية، ولاسيما بعدما أصبح يتوفر له فقط بعض البرلمانيين، بعدما كان يضم في مجلس النواب فقط 112 برلمانيا، ما يعني اختفاء عائد مالي مُعتبر.
والمؤكد، وفق وجهات نظر مختلفة، تشمل منتسبين للحزب، أن هناك “إفلاسا” عصف بحزب “المصباح” الذي قاد الحكومة المغربية طيلة عقد من الزمن (من 2012 إلى 2021)، منذ انتخابات سبتمبر 2021، التي لم يحصل فيها مرشحوه للغرفة الأولى للبرلمان إلا على 13 مقعدا فقط، أي أنه فقَدَ 99 مقعدا.
واقع يعني أساسا، وبغض النظر عن عوامل أخرى تتعلق بمزاج الدولة، أن هناك “غضبا” شعبيا ونفورا للناخبين، من حزب رفع شعارات اجتماعية مدغدغة ترتدي عباءة الدين، قبل أن يفاجئوا ببرامج حكومية طيلة الحكومات التي قادها الحزب، منذ 2012 وإلى غاية خريف 2021، تميل إلى المحافظة على التوازنات الماكرو-اقتصادية للدولة، ولكن على حساب القدرة الشرائية للمواطنين؛ فارتفعت الأسعار في المواد الأساسية، وحُررت أسعار المحروقات لفائدة جشع الموزعين والمحتكرين، وأُغلق بابُ التوظيف واستبدل بعقود التعاقد في عديد من القطاعات وعلى رأسها التعليم، وغيرها من الإجراءات التي اكتوى بها المواطن، وبرر قادةُ الحزب اتخاذَها بالضرورة الحتمية والمصلحة العليا للوطن لإنقاذ الخزينة العامة من إفلاس كان وشيكا، بحسبهم.
لقد أدت انتكاسة الحزب في انتخابات 2021 المفاجئة إلى رجع صدى مدمر متعدد الأبعاد على الداخل الحزبي، وما إنْ استفاق أعضاء الحزب وقادتهم من الصدمة، حتى طفقوا إلى البحث عن “منقذ” لعله يخرج الحزب من الوضعية المأزومة التي بات عليها، فكان الاختيار على إعادة “الزعيم” بنكيران، بعدما صب البعض جام غضبه على قائد الربان وقتها سعد الدين العثماني، وحملوه المسؤولية على النتيجة الكارثية لاستحقاق 8 سبتمبر، بسبب عدم قدرته على الحفاظ على الرصيد السياسي الذي راكمه بنكيران!
ولكن مباشرة بعد تقلده منصب الأمانة العامة للحزب من جديد في شهر أكتوبر 2021، أي
بعد أيام قليلة فقط عن كارثة النتائج الانتخابية، أفصح عبدالإله بنكيران لمناضلي الحزب والمتعاطفين معه المتبقين، بصعوبة المرحلة، مؤكدا بأنه “ماشي ميسي”.
صعوبة مهمة العودة إلى الواجهة لحزب “الإسلاميين” المؤسساتيين، ستظهر أكثر جلاء مع مرور الوقت، حيث عكست الخرجات الإعلامية لـ”الزعيم” العائد مدى تقهقر “البيجيدي” ، خاصة لمّا نجده ينتقد بشدة وبكل سذاجة، في بيان رسمي، وزير الخارجية ناصر بوريطة، على خلفية تصريحات مؤيدة للعلاقات مع إسرائيل، بينما كان من اللباقة عدم إعطاء تلك التصريحات طابعها المؤسساتي، خاصة أن الذي كان وقع اتفاق التطبيع مع إسرائيل هو الأمين العام السابق للحزب، سعد الدين العثماني، وأن اللباقة كانت تقتضي من بنكيران، على الأقل تناسقا وانسجاما مع موقعه السابق والحالي، حيث ما يزال ينعم برغد ورفاهية مكتسبات المنصب، من سيارة وتقاعد سمين “عاطيهم ليه سيدنا” -كما يردد دوما- ومن حرس أمام بيته وسط العاصمة، ثم قبل هذا وذاك، من باب التحفظ والعلم الواجب في رجل دولة، حيث ليس هناك أدرى في الحزب من بنكيران بأن ملف العلاقات الدولية للمغرب، مكفول تدبيره والسهر عليه من طرف ملك البلاد.
هذا التصريح جر على الحزب غضبا ملكيا نادرا ما يحدث، عندما أصدر القصر الملكي بلاغا أشار فيه إلى أن الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية خرجت ببيان “يتضمن بعض التجاوزات غير المسؤولة والمغالطات الخطيرة، في ما يتعلق بالعلاقات بين المملكة المغربية ودولة إسرائيل”، وأكد الديوان الملكي أن “موقف المغرب من القضية الفلسطينية لا رجعة فيه، وهي تعد من أولويات السياسة الخارجية لجلالة الملك، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، الذي وضعها في مرتبة قضية الوحدة الترابية للمملكة. وهو موقف مبدئي ثابت للمغرب، لا يخضع للمزايدات السياسوية أو للحملات الانتخابية الضيقة”، و”أن السياسة الخارجية للمملكة هي من اختصاص جلالة الملك، نصره الله، بحكم الدستور، ويدبره بناء على الثوابت الوطنية والمصالح العليا للبلاد، وفي مقدمتها قضية الوحدة الترابية”.
اللهجة الغاضبة لبلاغ الديوان الملكي جعلت بنكيران يفهم الرسالة، ويسارع إلى حض أتباعه وقادة الحزب على عدم الرد على البلاغ الملكي، قبل أن يصدر حزبه بيانا آخر أكد فيه أن “البيجيدي “لا يجد أي حرج في تقبل ما يصدر عن الملك من الملاحظات والتنبيهات، انطلاقا من المعطيات المتوفرة لديه، وباعتباره رئيس الدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها”!
ويبدو أن الوازع الديني وقضية التطبيع، وهما الموضوعان المفضلان للتحشيد والتجييش للناس لدى التيارات الإسلامية، بالخصوص، لم ينفعا على الأقل لحد الآن، حزب بنكيران في إعادة بعض من بريقه المفقود في انتخابات 8 سبتمبر؛ كما لم تنفع الحلقات الدينية الأسبوعية التي دأب على نشرها بنكيران على صفحاته على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا ورقة التطبيع، في رتق الشرخ العميق في “المصباح” الذي أصابه في استحقاقات 2021، محولا “نوره” إلى ظلام دامس.