كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
زمن البدايات الأولى: مقاربات متباينة للتحرير
يَذكر المؤسسون الأوائل لجبهة بوليساريو عام 1973، والذين لا زال معظمهم أحياء، أنهم لم يكونوا يسعون إلى الانفصال، وأن حركتهم التي انبثقت من زخم النقاش الذي كان سائدا في الجامعات المغربية كانت تبحث عن أفضل الصيغ الممكنة لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب من نير الاستعمار الإسباني، في ضوء اندفاع تيارات يسارية راديكالية واتجاهات قومية، وأن مشاكلهم مع السلطات والأحزاب المغربية وقتذاك، كانت تكمن في غياب أي تفهم لمطالبهم في ظل سياق تاريخي تشابكت خيوطه.. لذلك سيأتي الارتماء في أحضان ليبيا ثم الجزائر، نتيجة تناقضاتهما والنظام المغربي في زمن الحرب الباردة وبحثهما، الذي لم ينقطع، عن سبل إنهاك الملكية عبر مشاكل داخلية وخارجية، بديلا عن مجالات تحركات الداخل التي لم تجد متنفسها الطبيعي، في ضوء مظاهر الاحتقان السياسي التي كانت سائدة في تلك الفترة الموشومة بانسداد الآفاق وغلبة منطق القبضة الحديدية على خيارات الدولة الثالثية الحديثة عهد بالاستقلال.
ولأن تلك التناقضات كانت أكبر من أن يتم احتواؤها أو تصريفها عبر مواقف قابلة للاستيعاب في الداخل، فقد تدحرجت كرة الثلج من مرمى إلى آخر لتصبح جبل جليد.. الجزء المتخفي منه أكبر مما يبدو على السطح، ولم يعد في الإمكان تسليط القدر الكافي من الحرارة والدفء لإذابته، بقدر أقل من الخسائر المتبادلة.
منطقان كان يتصارعان في حلبة ضيقة لا تحتمل تعايشهما معا: حركة الشباب الصحراويين المتشبعة بأفكار راديكالية تحلم بتغيير العالم من خلال قوالب إيديولوجية كان لها بريق سحري قوي في ذلك الزمن، تقتبس معالمها من تمردات وثورات بعضها حقق نجاحا باهرا، وحركة رسمية موغلة في التحفظ والإذعان لأساليب المفاوضات والمنهجية الدبلوماسية التي لا تترك مجالا لغير تصور الدولة الذي يستقرئ العلاقات الدولية ويتوقف طويلا أمام موازين القوى.
في تلك المرحلة، كانت قضية الصحراء بصدد أن تصبح المسألة المحورية في التجاذب الإقليمي، أكان ذلك على مستوى الانشغال الذي عبرت عنه عواصم مثل الرباط، نواكشوط والجزائر، قبل الافتراق عند منعطف الطريق، أو في سياق الإحساس الذي بدأ يخالج إسبانيا بأن يوم جلائها لن يكون بعيدا، وعليها أن تستعد للرحيل، مع ما يعنيه ذلك من احتمالات، سيكون أقربها إلى القرار الإسباني الذي تصرف وفق المنطق الاستعماري.. العمل من أجل خلط الأوراق عبر ترك جمر ساخن تحت رماد بارد، لكنه قابل للاشتعال حتى من دون أن يقترب منه عود الثقاب الذي كانت تمسك به أطراف أخرى.
حدث أنه في ظل ذلك الانجذاب، اصطف المغرب وموريتانيا في جانب، واختارت الجزائر وإسبانيا مواقع مغايرة، ستجد امتدادها لاحقا في دعم جبهة بوليساريو، لتكون بمثابة حصان طروادة الذي يُخفي المطامع الأخرى التي لم تشأ أن تعلن عن نفسها صراحة.
على الصعيد العربي، وهذا هو الأهم في استقراء أبعاد انخراط كل من ليبيا والجزائر وقتذاك في لعبة إضعاف الجار الغربي، كان المغرب في عام 1973 قد اعتلى واجهة الأحداث العربية، من خلال مشاركة القوات المغربية في حرب أكتوبر، وما تلاها من تطورات سياسية بالغة الأهمية، انتصر فيها المغرب للقضية الفلسطينية، وتحديدا عبر القرار الذي أقرته القمة العربية في الرباط للمرة الأولى عام 1974، حول اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وما سيترتب لاحقا عن هذا الموقف الذي توخته الرباط لتأكيد استقلالية القرار الفلسطيني وعدم تأثره أو خضوعه للخلافات العربية- العربية.
ثمة من كان ينظر إلى هذا الدور على أنه مقدمة لتحولات جديدة.. عملية وواقعية، تخاطب العقل الغربي باللغة التي يجيدها، ويمكن أن تُحدث نقلة نوعية في صورة العالم العربي.. ليس أبعدها أن نجاح المغرب في تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب من الاستعمار الإسباني، بطرق سلمية وعبر المفاوضات التي استندت إلى أوفاق الشرعية الدولية في إعمال القانون الدولي، سيشكل سابقة في تاريخ الصراع العربي – الإسرائيلي، يمكن أن تقلب موازين القوى، وهو الشيء الذي يرفضه المعسكر الآخر الذي سيتبلور لاحقا في شكل جبهة الصمود والتصدي ودول الرفض التي لم تحقق نظرياتها وأوفاقها شيئا إيجابيا على أرض الواقع!
سيكون لافتا في غضون ذلك أن العالم العربي تعرض لهجمة شرسة، استُخدمت فيها قفازات غير ناعمة، من قبيل إذكاء النزعة الطائفية في لبنان، وانفجار الهاجس الانفصالي في جنوب السودان، وكذا المخاطر التي كانت تهدد وحدة أراضي سلطنة عمان، حيث لم تكن جبهة بوليساريو بعيدة عن علاقات ملتبسة مع متمردي ظفار.
سينسحب الوضع ذاته على قضية الصحراء، ضمن مشروع إعاقة استكمال المغرب لوحدته الترابية في أقصى الجزء الغربي من العالم العربي، خاصة مع حدث المسيرة الخضراء في نونبر 1975، من جهة لأن التجربة اعتُبرت رائدة بكل المقاييس، سيما ما يتعلق منها بمشاركة كل فئات الشعب المغربي، على اختلاف مستوياته وتياراته وقواه الحية، وباعتبارها سابقة في التعبئة الشعبية التي لا تخضع للمعايير الإيديولوجية والتي أخفت التناقضات الجوهرية بين السلطة والمعارضة في عز اشتداد حدة الصراع حول شكل الديمقراطية المنشودة مضمونا ومحتوى.. ومن جهة ثانية، لأنه كان في وسعها أن تشكل رافدا قويا لدعم التوجه التحرري الذي كان سيقود حتما إلى إنهاء الاحتلال الإسباني في مدينتي سبتة ومليلية في ظرفية متسارعة الخطوات.