“لولا جوع البطن لما وقع طائر في الفخ بل ما كان الصياد يسعى لنصب الشراك” سعدي الشيرازي
حرية الصحافة بحر شاسع والحديث فيها ذو سجون.. أغلبنا حين يتحدث عن حرية الصحافة يذهب إلى بعدين: بعد مرتبط بالقانون المنظم للصحافة لأنه هو المجال الذي ينظم المهنة ومن خلاله نرصد مستوى ما تصل إليه دولة في منح الحرية للصحافة والمناخ العام الذي يتم فيه تداول المعلومات، ثم نتجه مباشرة إلى اختبار البعد المرتبط بطبيعة العلاقة بين الصحافة والسلطة.. وهنا لدينا معايير نحتكم إليها للحديث عن وضع حرية الصحافة في المغرب، والذي تضعه المؤسسات الدولية المهتمة بالمجال في مراتب متدنية قياسا إلى بلدان مجاورة، تونس على سبيل المثال لا الحصر. وطبيعة الانفتاح أو بنود التشدد في النصوص القانونية التي أصبحت تحت اسم “مدونة النشر”.
صحيح أنه تم حذف الكثير من البنود ذات المنحى الجنائي من قانون الصحافة، لكن لا زال الصحافيون يحاكمون في إطار ممارسة مهنتهم بفصول مستجلبة من القانون الجنائي.. أي أننا لم نمتع الصحافة بحرية أكبر ما دام سيف ديموقليطس الجنائي قائما.. مشكل آخر هو أن اتساع حقل النشر الرقمي أدخل غير الصحافيين في خانة النشر حول محتويات أو تعبير عن رأي في وسائل السوشيال ميديا وأثر على أنماط صحافية وكيف أشكال عمل أخرى.. ستظل أي ديمقراطية بدون حرية الصحافة معطوبة.. لذلك إذا كنا لا ننكر ما تحقق فإننا نعتبر دون المطلوب، ويلزمنا الكثير في هذا الباب.
لكن في حرية الصحافة ننسى مقومات أخرى أو أبعادا أساسية مهيكلة للصحافة وحريتها، ومنها أساسا وضع الصحافي في المجتمع والوظيفة التي يقوم بها، والحق في الوصول إلى المعلومات، حيث لا حرية بدون معلومات والوصول إليها ومستوى الحماية التي يتمتع بها الصحافي أثناء مزاولته مهنته، ثم وضعية الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية للمقاولات الصحافية التي تجعل من الصعب الحديث عن حرية الصحافة.. وهذا ما سأركز عليه هنا، لأن باقي العناصر السالفة أشبعت بحثا ودرسا.. وتوجد منظمات حقوقية ومهنية تُصدر بصددها بلاغات وتقارير سنوية.
إذا كانت الصحافة هي نشر الأخبار بين الناس، فلا حرية للصحافة في غياب المعلومات، التي ليست امتيازا صحافيا، لأن كل المواطنين لهم الحق في الولوج إلى المعلومات، امتياز الصحافي هو أن المادة الأولية التي يشتغل عليها في مهنته هي المعلومة، وهنا أريد أن أرفع لبسا كثيرا ما يقع فيها حتى الصحافيون، حين يتحدثون عن أن مهنة الصحافة هي نشر المعلومات.. لا أبدا، مهمة الصحافي هي منح الناس الأخبار، فالمعلومات يتلقاها الصحافي من صناع الحدث من مختلف الفاعلين في شتى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية والفنية، أو تكون على شكل وقائع طبيعية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية أو سياسية… لكنه لا ينشرها كما تلقاها، لأنه ليس علبة بريد، حيث أن المعلومات مجرد مادة خام، بل عليه أن يُدخل عليها الصناعة الصحافية، أي ما تلقاه من دروس نظرية وما استفاد منه في تجربته الشخصية وما تراكم من تجارب الصحافة على المستوى الكوني، من مثل (الإجابة على الأسئلة الست، خصوصية التحرير الصحفي، الموضوعية، التوازن، الهرم المقلوب، مقومات الأجناس الصحافية، تنويع المصادر وتقابلها، تحديد زاوية المعالجة…)، أشبه دوما هذا الفرق الدقيق بين المعلومات والأخبار، بالبقرة التي تظل منذ الصباح ترعى في الحقول والمراعي من شتى أنواع النباتات، لكنها بعد عملية هضم طويلة تفرز لنا الحليب، وتخلص باقي الزوائد في مخلفات، فالحليب هنا هو الأخبار التي ينشرها الصحافي أما المعلومات فهي ما يصنعه أو يمده به مختلف الفاعلين، هو مثل النباتات التي تظل ترعاها البقرة منذ الصباح، فليس كل من امتلك معلومة أو نشرها بأي وسيلة كانت بصحافي.. أتذكر قولا حكيما سها البال عن صاحبه، أن الصحافي يستيقظ كل يوم جاهلا لكنه ينام حكيما، لأنه أصبح يعرف معلومات كثيرة من خلال مصادره المتنوعة.
قصدت بهذا أن محرك الآلة الصحافية يدور وجوبا بوقود المعلومات، صحيح اليوم حصة المغاربة من المعلومات اتسعت قياسا إلى الأمس، ولكن حجم المعلومات الموجودة اليوم لا علاقة لها بما كان يُتداول حتى نهاية الثمانينيات، فمقابل التطور الكمي لحجم المعلومات المنتجة تظل مساحة ما يصل إلى المغاربة عبر الصحافة جد ضئيل، من هنا الشكوى من تشابه عناوين الصحف ومواضيعها، حتى ليبدو أن الصحف كثرت وقلّت المعلومات، أين هي حرية الصحافة إذا كانت المعلومات غير متوفرة أو مسورة بأسوار فولاذية من قوانين السر المهني إلى التداول المعطوب للمعلومات في الحقل العام، حتى اختلالات النص القانوني المنظم لهذا الحق.. لا وجود لحرية النشر إذا لم يكن للصحافي حرية الاختيار وسط وفرة من المعلومات ما يقدمه لقرائه النوعيين ليتميز به عن باقي الجرائد.
الجانب الثاني الذي يجعل وضعية حرية الصحافة هشة، هي ما أسميه بغموض وظيفة الصحافي في المغرب، ما دور الصحافي في المجتمع الآن وهنا، المجتمع لا يحدد وظيفة ومهنة الصحافي بشكل جلي لا غبار عليه، حتى في النص المنظم ل”الصحافي المهني”، لأنه يحتكم إلى الدخل أي إلى الجانب الاقتصادي أو المادي في تحديد من هو الصحافي باعتبار مصدر عيشه هو الصحافة، لا، هذا تحديد للماهية، وأنا أتحدث عن الوظيفة وهي أخطر، المجتمع مطمئن لهذا الغموض واللبس، لأنه يريحه من وجع الدماغ، هذا سنلمسه في أحكام العامة على تحديد وظيفة الصحافة، المغاربة أصبح لديهم الصحافي الذي لا يدخل السجن ليس صحافيا، وحين يتعرض لحكم بالسجن، تبدأ الأحكام العامة: “وحتى هو مشى بعيد”، “لا، كان تيقلب عليها”…
ويتركون الصحافي المسجون وحيدا في مواجهة قدره الذي أصبح فرديا رغم أن الصحافة شأن جماعي، والصحافيون أيضا يريحهم غموض وظيفتهم في المجتمع، مستكينين لما يعتبرونه امتيازا لوظيفة الصحافة ووضعا اعتباريا وانتهى الأمر… الحرية إطار عام فيه تفاصيل كثيرة يكمن فيها الشيطان، إذا اختل جزء أثّر على بنية الكل، من هنا تضرر شكل ونوع وقيمة حرية الصحافة بسبب غموض وظيفة الصحافي في المجتمع، ها نحن نرى في آخر تقرير لمراسلين بلا حدود، إشارة إلى أن المغاربة يثقون في الصحافة المستقلة، ولكن هذه الصحافة حين تتضرر اقتصاديا أو سياسيا، هل يهب المجتمع لنجدتها ومساعدتها على الخروج من المأزق، سأعطي مثلا بجريدة “حدث الخميس” الفرنسية، وصلت الجريدة إلى حافة الإفلاس، أعلن ناشرها حقيقة الأمر على القراء، واقترح مساهمة القراء في رأسمال الشركة المصدرة لها، وهكذا بدأ ما يسمى “الوسيط” في الصحافة أي أن القراء أنفسهم يُقيّمون جودة المنتوج الصحافي.
نحن تغلق عندنا الصحف الكبرى، والمواطنون غير مبالون، يسجن صحافي ظلما والمغاربة لا يهتمون.. كما لو أننا في جزيرة معزولة، أي أن مهنة الصحافة ليس فيها أي تأمين، أتذكر ما قاله اليوسفي عن السياسة لحظة التناوب التوافقي في 1998، لا يوجد تأمين سياسي بالمغرب، على نفس خطاه نقول ليس هناك تأمين صحافي بالمغرب.
ثم الطامة الكبرى، هي وضعية الهشاشة التي تعاني منها المقاولات الصحافية، فقد نشرت النقابة الوطنية للصحافة المغربية، في وقت سابق أرقاما صادمة حول المقاولات الصحفية بالمغرب، فما يناهز 260 جريدة إلكترونية مشكلة من 3 أشخاص فقط، من مجموع الجرائد الإلكترونية بالمغرب الذي هو 367 صحيفة، بينها 168 مشكلة من شخص واحد و54 موقع إلكتروني مشكل من شخصين و38 مقاولة من أقل من 3 أشخاص، إنها أرقام مهولة تؤكد بُعد هشاشة المقاولات الصحافية، فما تبقى من عزوف عن القراءة أتت عليه جائحة كورونا، وقد تابعنا ما كان صرح به الوزير لقجع المكلف بالميزانية والذي أثار ضجة رغم أن هذا ما كنا نقوله، حيث أكد أن الدعم لم يؤد إلى إنتاج مقاولة صحافية قوية. وشبه الدعم ب”الصيروم” الذي لا يعالج الآفة وإنما يخفف الآلام إلى حين.. حتى أننا أصبحنا أمام أثرياء الدعم وفقرائه من الصحافيين والصحافيات.
وهذا له انعكاس خطير على الوضع الاعتباري للصحافي، تابعت مجموعات خاصة بالشباب الصحافيين على الواتساب، بحكم تأخر الدولة عن صرف أجور الصحافيين زمن الدعم الحكومي المباشر، لقد خجلت وأحسست بحيف كبير تعانيه الصحافيات والصحافيون، لا أتكلم عن أثرياء الصحافة، الصحافيون يتساءلون: “واش داز ليكم الصالير”، وأحدهم يبشر: “ستمر الأجور اليوم بالنسبة لمن لهم حساب في البنك الشعبي”، وآخر يعلق بسخرية مرة: “ستمر مرور الكرام”. كناية على قلة مائها وشح مصادرها وهزالتها…
ما معنى حرية الصحافة إذا كان الصحافي عبدا للقوت اليومي وللصراع مع المعيش، السكن والتنقل والمرض ناهيك عن التقاعد وتأمين المستقبل؟ لا حرية لجائع سوى إذا كنا نعتبر الحق في البؤس والهشاشة أحد حقوق الإنسان. فمعلوم في الحقل الفكري العام، أن الحرية جزء من المبادئ السامية، التي تأتي بعد توفير الحاجيات الأساسية للوجود البشري، من لا يستطيع إشباع الحاجيات الأساسية للاستمرار في الوجود، ستبدو له الحرية والعدالة والديمقراطية مجرد ترف بورجوازي زائد عن الحاجة، ها هنا عوامل معرقلة للحرية، زد على ذلك انتشار الأمية.. فالمغاربة لا يقرؤون، وبالتالي فالصحافيون غير مؤثرين في الحقل الاجتماعي والسياسي، مقارنة فقط بعقد من الزمن، هناك تحولات خطيرة تمس الوضع الاعتباري للصحافي في المجتمع.