يبدو أن الجو العام السياسي والاقتصادي والاجتماعي السائد في المغرب، والذي مَيْزته الطاغية هي الجمود السياسي، قد شجع جماعة “العدل والإحسان” لتخطو خطوة مثيرة في اتجاه كثيرين “مِمن يهمهم الأمر”، وكأن الجماعة تعيد صياغة وطرح السؤال “المستفز” للدولة الذي طرحه مؤسسها ومرشدها الراحل بداية القرن الحالي، عندما كتب “مذكرة” بعنوان “إلى من يهمه الأمر”.
ولكن بعكس “المذكرة” التي صاغها في 20 يناير 2003 المُرشدُ المؤسس عبدالسلام ياسين، المتوفى في 13 ديسمبر 2012، والتي كانت عبارة عن نقذ لاذع إلى الملك محمد السادس افتقد إلى كثير من الكياسة واللباقة، بل وحوت المذكرة غير قليل من التهكم والسخرية والطعن حتى في الشرعية الدينية والسياسية للجالس على العرش، فإن ما أطلقت عليه “الجماعة” تسمية “الوثيقة السياسية”، جاءت بنبرة مغايرة كثيرا لِما عودتنا عليه “الجماعة الإسلامية” ، حتى خُيل لقارئ الوثيقة أنه بصدد “برنامج انتخابي” لحزب سياسي ذي مرجعية إسلامية معتدلة، يستعد لخوض استحقاقات باتت وشيكة..
في الوثيقة التي احتوت على 196 صفحة، تقرأ منذ مطلعها وتستطيع دون عناء فهم الرسائل أو الرسالة الوحيدة التي تريد إيصالها “جماعة العدل والإحسان”، إلى الفاعلين السياسيين، وتحديدا النظام/الدولة ومعها الأحزاب السياسية، ثم إلى المجتمع/الرأي العام، ومفاد الرسالة هو أن هذه “الجماعة” التي “يحضنها” هذا المجتمع -وفق الوثيقة- ما تزال تمد يدها منذ تأسيسها منذ أزيد من ثلاثة عقود، إلى أيدي “الفضلاء والغيورين” من أبناء هذا الوطن، وستظل كذلك، وهو ما تعتبره “واجبا وليس منة على أحد”.
بل إن ما يجعل ذلك “أكثر إلحاحا هو حجم مشاكل المغرب التي تعقدت وتضخمت لدرجة أصبحت أكبر من أن يواجهها طرف واحد مهما بلغت قوته وحسنت نيته، مما يتطلب حلا جماعيا يتم قبله وخلاله وبعده حوار مسؤول وواضح. وهو أمر ممكن إن صفت النيات، وكانت مصلحة المغرب والمغاربة أسبق في الاعتبار، وأبعد عن الحسابات الضيقة والدروب المعتمة” تضيف الوثيقة.
ولعل ما جعلنا نتحدث عن الوثيقة كـ”برنامج انتخابي” لـ”الجماعة”، هو أن أصحابها، أولا، يُذكّرون منذ البداية بأنهم اختاروا تسميتها بـ”الوثيقة السياسية” “تمييزا لها عن الورقة المذهبية وعن البرنامج الإجرائي في الوقت نفسه”، يعني أنها رسالة لرؤية سياسية بل ومشروع مجتمعي وسياسي يبتغي المساهمة في إيجاد الحلول لمشاكل البلاد والعباد، وثانيا، خُلُو الوثيقة تماما من أي أسلوب مستفز للنظام، ومن أي مظهر من مظاهر سياسة “لي الذراع”، حتى وهي تتحدث عن وعي الجماعة “جيدا بتغول السلطوية في مغربنا، وتمادي الحاكمين في إهدار كرامة الإنسان، ومصادرة الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية”؛ حيث يظهر جليا تفادي صائغي الوثيقة أي إشارة لرمز النظام/الملك مباشرة، وتبنيهم مصطلحات يتداولها سياسيون مغاربة في خطاباتهم العلنية بل وحتى داخل قبة البرلمان!.
وما يجعل المتتبع يرى في “وثيقة الجماعة” نزوعها إلى أن تكون قوة اقتراحية وفاعلا في الساحة السياسية، إلى جانب باقي الفاعلين وليست بديلا يلغي الآخرين، ولِمَ لا العمل من داخل المؤسسات، هو إشارتها إلى “حالة الجمود والانحباس غير المسبوقة” التي تسود، والتي برأيها “تهدد بالانهيار العام والتصدع الشامل للنظام المجتمعي، جراء تردي الأوضاع المعيشية، وتفشي الفساد، وانحلال الأخلاق، وإفلاس السياسات المتبعة وغيرها”!.
وفيما يشبه تذكيرَ “من يهمه/هم الأمر” بنواياها “الوطنية” وبرغبتها في أن تعمل في إطار “الوحدة والتعاون”،بحيث “لا يمكن تحقيق تغيير حقيقي للأوضاع السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، بدون توحيد الجهود بين ذوي المروءات بغض النظر عن مرجعياتهم، فإن “العدل والإحسان” أعادت التذكير أيضا برفضها “الاستقواء بالخارج والانزواء في غلس السرية، وهذه ميزات تترجم اللاءات الثلاثة التي ما فتئت الجماعة تعلنها بوضوح: لا للسرية، لا للعنف، لا للتبعية للخارج”.
أخيرا، وبالإضافة إلى أن محاور “الوثيقة السياسية” للجماعة، جاءت متناغمة ومتفاعلة، تلميحا وتصريحا، مع جوهر السياسات الاستراتيجية للدولة المغربية، ولاسيما تلك التي يقودها الملك مباشرة، مثل الورش الاجتماعي والنموذج التنموي الجديد، فإن “إسلامي” “العدل والإحسان”، حرصوا بشدة على تقديم “مرجعيتهم المعتدلة” باعتبارها مرجعية لا تصطدم أو تنفي باقي المرجعيات، وأنهم عملوا ويمكن أن يعملوا مع الآخرين من مكونات هذا المجتمع من أجل الوطن المنشود الذي تسود فيه العدالة الاجتماعية ويختفي منه الظلم والتسلط؛
فهل يستعد “العدليون” لاحتلال الفراغ الرحب الذي تركه “إخوان” “العدالة والتنمية” بعد سقوطهم المدوي في الانتخابات الأخيرة؟.