في عام 1888 استقل كنوت هامسون البالغ من العمر تسعة وعشرين عامًا سفينة عائدا إلى وطنه النرويج من رحلة قادته إلى الولايات المتحدة الامريكية، حيث كان يعمل كسائق عربة ومساعد قس. عندما توقفت السفينة، بعد حوالي أسبوع من السفر في ميناء كريستيانيا (المدينة المعروفة اليوم باسم أوسلو)، قرر هامسون البقاء على متنها. بقيت السفينة في ميناء كريستيانيا ليوم كامل، لكن هامسون شعر أنه لا يستطيع مواجهة المدينة التي عاش فيها من قبل في فقر مدقع، محاولًا أن يصبح كاتبًا ناجحًا. تجول هامسون على سطح السفينة واستعاد الذكريات المؤلمة حين كان يتجول في تلك المدينة نفسها، وهو يتضور جوعا.
يتذكر المنازل وغرف السطوح التي أقام فيها وهو يعاني من البرد، الأشخاص الذين أقرضوه المال. يتذكر الفتاة التي وقع في حبها، المرات التي وقف فيها خارج منزلها في انتظار إلقاء نظرة عليها. لقد تذكر كيف شعر بالوحدة واليأس الذي شعر به في كريستيانيا/أوسلو. تذكر البرد والجوع والفقر.. أخذ قلم رصاص وبعض الأوراق من جيبه وشرع في الكتابة: “كان ذلك في تلك الأيام عندما كنت أموت جوعا في هذه المدينة الغريبة التي لم يغادرها قبل أن تضع بصماتها عليه، ظل يكتب على سطح السفينة Thingvalla حتى أصبح الظلام شديدًا بحيث لا يمكن رؤيته.
عندما وصلت السفينة إلى وجهتها النهائية في كوبنهاغن، نزل هامسون ووجد غرفة رخيصة في سطح منزل، استأجرها. وهناك كتب بشكل مستفيض روايته الرائعة “الجوع”. استمرت ذكريات كريستيانا في القدوم إليه وكتب كما لم يفعل من قبل. شعر أنه كان يخلق شيئًا ذا أهمية كبيرة وستكون له قيمة فنية، حتى في عمق نومه، كان يستيقظ بتحفيز من شريط ذكريات مؤلمة، يدونها كيفما اتفق وينقحها في اليوم الموالي. كتب مثل رجل مهووس، بالكاد يمنح نفسه وقتًا لتناول الطعام.
وحين اكتملت، بدأ هامسون يتجول في كوبنهاغن بمخطوطته ملفوفة في إحدى الصحف. قرر أخيرا العثور على إدوارد براندس المحرر الأدبي لصحيفة “بوليتيكن” وشقيق الناقد الأدبي الشهير جورج براندس. عندما زار هامسون إدفارد براندس في مكتبه ليقدم له مخطوطته، صُدم الصحافي بمظهر هامسون الذي كان مثل المتسول وبدا أنه يعاني من سوء التغذية الشديد. قال براندس لاحقًا إن مشهد وجه هامسون كاد أن يجعله يبكي. لم يسبق له أن رأى أي شخص بمثل هذا الوجه اليائس والجائع. كانت يدا هامسون ترتجفان عندما سلم صديقه مخطوطته، وقبلها براندس فقط لأنه شعر بالأسف الشديد تجاهه. وعد براندس هامسون بأنه سيقرأ قصته وترك له هامسون اسمه وعنوانه.
عندما عاد إدوارد براندس إلى منزله في تلك الليلة، لم يستطع أن ينسى مظهر ذلك الرجل الفقير الذي يعاني من سوء التغذية الذي زاره في مكتبه وعرض عليه مخطوطته بيدين مرتعشتين. بدأ براندس في قراءة المخطوطة. وجد أنه لا يمكن أن يصدق النص الذي يقرأه. تأثر على الفور بموهبة هامسون وشغفه. أعجب براندس بقصة هامسون المأساوية. بل أحس بالخجل من أنه لم يعامل هامسون بشكل أفضل، انتهى من قراءة القصة. فشعر أنه لم يقرأ شيئا مثل هذا العمل الروائي أبدا.
أعجب إدفارد براندس بمخطوطة هامسون واتصل برئيس تحرير مجلة “ني جورد” لنشرها. قرأ الكثيرون قصة هامسون وُصدمت الأوساط الأدبية في الدانمارك والنرويج، بما فيه من أحداث وأعجبوا بقوة أسلوبها وعمق بنائها الحكائي. أنهى هامسون القصة لاحقًا وأصبحت رواية “الجوع” التي نُشرت عام 1890 أحد أشهر الروايات العالمية التي حصد بها هامسون جائزة نوبل..
تدور أحداث الرواية حول كاتب ناشئ يعيش الفقر المدقع ويعاني ألم الجوع الذي يضطره لبيع أزرار سترته البالية ليجد ما يقتات به، يكتب مقالات يظل يتردد على الصحف لنشرها فلا يجد السبيل إلى ذلك، فيقف على حافة الجنون بمشاعر تتفجر في حكي عجيب.