مات أليكسي نافالني في السجن. المعارض الروسي دفع ثمن الوفاء لأفكاره، واستحق أن يدخل التاريخ من باب الكبار، الذين استرخصوا أرواحهم دفاعا عن فكرة. كان بإمكانه أن يتفاوض أو يبيع أو يطلب الصفح من بوتين، لكنه خاض معركته بشرف حتى النهاية. لكن من سوء حظ هذا الرجل الشجاع أن الغرب يبكي عليه. واذا بكى عليك الغرب، هذه الأيام، تفقد تعاطف بقية العالم. لأن الغرب مثل التمساح، دموعه كاذبة.
سجناء الرأي بالآلاف في مختلف البلدان، يموتون مثل الفئران، دون أن يكترث لمصيرهم أحد، إلا إذا كانت لديه مصلحة من وراء ذلك. الغرب يختار بعناية من يستحق أن تدق من أجله الطبول. يبكي نافالني، لأنه عدو عدوه. مثلما يبكي على الإيغور، فقط لانهم ضحايا النظام الصيني، الخصم الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية ومن يدور في فلكها من الاوربيين. العلاقات الدولية تحكمها المصالح المتقلبة. عليك أن تموت في الوقت المناسب.
نافالني، رغم مصيره التعيس، يظل أوفر حظا من محمد مرسي، مثلا. الرئيس المصري المنتخب، مات في المعتقل دون أن يثير ذلك حفيظة أحد. لم يبكه إلا “إخوانه” وعائلته، رغم أنه كان سجينا سياسيا باعتراف كبريات المنظمات الحقوقية الدولية، ومختلف الأنظمة الغربية التي اعتبرت وقتها وصول عبد الفتاح السيسي الى الحكم “انقلابا”. لكنه مات بعد أن اشترت مصر طائرات رافال من فرنسا، ونفذت ما تطلبه الإدارة الامريكية في الشرق الاوسط، وجرت مياه كثيرة في المنطقة، ولم يعد من داع للبكاء على شخص هزمته موازين القوى السياسية، وأصبح ورقة محروقة!
الأمر كان مختلفا مع جمال خاشقجي، الصحافي السعودي المأسوف عليه، الذي شكل اغتياله هدية من السماء للولايات المتحدة الأمريكية ولقناة “الجزيرة” كي تستعيد بريقها. واشنطن استعملت دمه كي تبتز الرياض، وتجبرها على دفع مليارات الدولارات. “والله يجعل الغفلة بينالبايع والشاري”. ليست واشنطن وحدها من تاجرت في الجثة المقطعة. الرئيس التركي أيضا لم يتورع في استغلال الجريمة الى الآخر، في إطار توسيع نفوذه بالمنطقة، قبل أن يقلب الصفحة نهائيا، ويتصالح مع السعودية، بعدما استنفذ الاستغلال السياسي للجريمة التي جرتعلى تراب بلاده.
الرجل الذي يحلم ببعث أمجاد الامبراطورية العثمانية، لم يترك قضية في المنطقة لم يستغلها أبشع استغلال، قبل ان يغير موقفه ب180 درجة، تماشيا مع التقلبات السياسية والجيواستراتيجية. خلال العقدين الاخيرين، استثمر في كل القضايا العربية في محيطه كي يوسع نفوذه: الربيع العربي، انتفاضة الشعب السوري، الصراع في ليبيا، صعود الاخوان المسلمين، القضية الفلسطينية… ثم قلب الموقف والمعطف بمجرد ما جرت الريح في اتجاه المعاكس. أين أردوغان نسخة “سفينة مرمرة”؟ لماذا لا يصنع شيئا من أجل غزة، ماعدا الخطب العنترية؟ لماذا لا يقطع -مثلا- علاقاته التجارية والاقتصادية مع الدولة العبرية حتى توقف الحرب؟ خصوصا ان حجم المبادلات بين البلدين ثقيل بما يكفي لتوجيه ضربة موجعة للاقتصاد الاسرائيلي؟ واضح أن “السلطان” لم يعد يحتاج الى فلسطين كي يبتر الغرب، ولا إلى الإخوان المسلمين كي يستعيد النفوذ التركي في مجمل العالم العربي، لذلك انقلب عليهم وطردهم شر طردة من تركيا، وها هو في القاهرة يخطب ودّ عبد الفتاح السيسي، الذي لم يترك وصفا شنيعا لم يضعه امام اسمه… لو تجسد “السينيزم” رجلا لكان اسمه رجب طيب أردوغان!
ليس أفظع من “السلطان” في هذا الباب إلا حلفاءه في “الناتو”. هناك سقوط أخلاقي مدوّ في الضفة الأخرى من الأطلسي. كأن الغرب تعب من قيمه ويريد أن يتخلص منها كي يصبح اكثر حرية وهو يرتكب جرائمه، دون عقدة ذنب أو تأنيب ضمير. كيف يقبل من يسمي نفسه بـ”العالم المتحضر” أن يقتل، أمام أعينه، ثلاثون ألفا من المدنيين الابرياء العزل، في حرب بشعة تقودها حكومة عنصرية بلا أخلاق ولا قيم؟ واضح أن أرواح الفلسطينيين لا تساوي بصلة، مثل أرواح العراقيين والفيتناميين والروانديين… لكن أرواح الاوكرانيين غالية. لأنهم بيض وأوربيون. لقد سقط القناع وكشف الغرب عن وجهه البشع. عندما يجري الحديث عن حقوق الانسان فان المقصود هو الانسان الغربي الابيض، فقط، دون بقية العالم!
في كتابه الأخير، يتحدث إيمانويل تود عن “هزيمة الغرب”* أمام روسيا بناء على معطيات ديمغرافية وجيوسياسية دقيقة. خلاصة الكتاب أن بوتين يعرف ماذا يفعل وإلى أين يسير، بخلاف الأوربيين الذين دخلوا في مواجهة لم يستعدوا لها، ويتخبطون بين أوهام التفوق وهشاشة الاقتصاد والخلافات داخل تكتلاتهم الاقتصادية والعسكرية، من حلف شمال الاطلسي الى الاتحاد الاوربي. السقوط الأخلاقي والتراجع الديمغرافي، يمهدان للهزيمة العسكرية والاستراتيجية للغرب. لكن ذلك لن يحدث دون تداعيات وخيمة على السلم العالمي. نحن في مرحلة تنذر بالأسوأ. التاريخ عادة ما يتحرك ببطء، لكنه فجأة يقفز أو يطير دون سابق إنذار، ليدخل العالم في مناطق معتمة لم يكن يتوقعها أحد. في هذه المناطق توجد الحروب والابادات والصراعات المدمرة والديناصور وهتلر والقنبلة النووية…. رغم أن الظلام الحقيقي يوجد في النفس البشرية، “الأمارة بالسوء”، منذ أن هشم قابيل رأس اخيه هابيل!
بدأنا في روسيا مع نافالني، ونختم من روسيا مع أنا أخماتوفا، الشاعرة العظيمة التي كتبت عام 1914، بينما البشرية تستعد للتضحية بعشرين مليون روح:
“في ساعة واحدة/ تقدّم بِنَا العمر مائة عام”.
أجيال بكاملها شاخت في لحظة واحدة، وغرقت في وحل الخنادق وفي الدم والظلام. الذين عاشوا في عصر أخناتوفا، وهي من مواليد1889 -مثل هتلر وشارلي شابلن وجان كوكتو وميخائيل نعيمة- يعرفون ذلك جيدا. في العشرينيات من عمرهم، اندلعت الحرب الكبرى التي حصدت نحو عشرين مليون روح، وعلى أبواب الخمسين نشبت الحرب العالمية الثانية، التي سقط فيها نحو ثمانين مليون إنسان، وبين الحربين كانت هناك المجاعات والإبادات والازمات الاقتصادية … يبدو أن قدر بعض الأجيال أن تجتاز اختبارات فظيعة، فيما أخرى تطوي حياتها في دعة ورخاء، وأخشى أن نكون من الصنف الأول!
* La Défaite de l’Occident, Emmanuel Todd, Gallimard