مراكش مدينة رائعة، لكن كثيرين يشعرون بالندم عند زيارتها، وأنا واحد منهم، ليس لأن الشمس تخلف موعدها، ولا لأن القردة تقصّر في عروضها البهلوانية -تحية خاصة لذلك السعدان الذي يلبس قميص ميسي ويراوغ السياح في جامع لفنا- ولا لأن الثعابين لم تعد تتقن الرقص على إيقاع الغيطة الذي يتردد في سماء الساحة منذ قرون… لا أبدا، كل المآثر التاريخية والسياحية والحيوانية والنباتية وكل المرشدين السياحيين، الرسميين والمزيفين، وعربات الخيول والعصير ونقّاشات الحنة وفرق گناوة والصنّاع التقليديون… كلهم يؤدون مهمتهم على أكمل وجه، ويستحقون الثناء. ما يزعج في مدينة “البهجة” هو التجاور الخطير بين الثراء الفاحش والفقر المدقع، بين الفخامة المدهشة وأقصى درجات البؤس.
يتعشى السائح في المامونية او الفوكيتس أو أحد الرياضات الفاخرة، ثم يضطر لعبور أزقة ضيقة كي يصل إلى سيارته، وفي الطريق يصادف جيشا من المتسولين والمتسولات رفقة أطفال صغار، يمدّون أيديهم للعابرين. كيف لا يشعر بمغص في البطن، وبرغبة في التخلص من الوجبة التي أعدّها طباخ تزين “طابليته” نجوم “ميشلان”، وهو يكتشف أن فاتورة العشاء يمكن تُعيِّش كل هؤلاء البؤساء لمدة شهر؟!
من المستحيل ألا تستبد بك عقدة الذنب، إذا كنت شخصا سويا، أيا كانت جنسيتك، كما من المستحيل أن تجد من يجيب عن سؤالك: ماذا يفعل الأطفال بعد الواحدة ليلا في شوارع مراكش؟ ألا يذهبون إلى المدرسة؟
أشياء أخرى تفسد متعة السياحة في مراكش على رأسها النظافة. من يبحث عن سطل قمامة في أحياء المدينة العتيقة كمن يفتش عن إبرة في الصحراء، مما يدفع الناس إلى رمي الأزبال كما اتفق. كما أن معظم المراحيض في المطاعم والمقاهي السياحية، لا تتوفر على ما يلزم من أدوات تنظيف، لا صابون كي تغسل ولا ورق كي تمسح…. الحل أن تتجول وأنت تحمل بين أغراضك عتاد التواليت!
من المؤسف أن يتحول الجمال إلى عبء على الزائر، وأن يتبخر سحر المدينة بسبب ثغرات يسهل تداركها.
مراكش تمنح تذكرة ذهاب الى حقب غابرة، وتكاد تكون المدينة الوحيدة في العالم التي احتفظت بساحتها كما كانت خلال القرون السحيقة، مسرح يحج اليه الناس كي يتفرجوا على “الحلقة” بعروضها الساخرة وشخوصها الساحرة، وعلى القردة وهي تنطّ والثعابين وهي ترقص…. ذلك ما التقطه عدد كبير من المبدعين الذين وقعوا في غرامها، مثل ابنها البارّ خوان غويتيسولو، الذي خلد الساحة وعجائبها في كتابه الجميل “ماكبارا”، وساهم في استصدار قرار تصنيفها تراثا شفاهيا للإنسانية من طرف اليونسكو، أو إلياس كانيتي الذي كتب “أصوات مرّاكش”… وآخرين كثْر.
في أوربا أيضا كان هناك ما يعرف بـ”ساحات العجائب”، مثل تلك التي كانت أمام “نوتردام” في باريس، وخلدها فيكتور هيغو في الرواية التي تحمل اسم الكاتدرائية. غير أن هذه الساحات انقرضت اليوم، وشيدت مكانها عمارات وأبنية حديثة، ذلك ما يصنع فرادة مراكش. لكن “حتى زين ما خطاتو لولا”.
ليس أفظع من الشحاذين في مدينة “سبعة رجال” إلا أصحاب “السترات الصفراء”، أقصد حراس السيارات. التعامل معهم يفاقم الاحساس بالذنب: إما أن تغدق عليهم بسخاء، وتنزعج في النهاية لأنك تدرك أن لا شيء يجبرك أن تقوم مقام الدولة التي تركتهم بلا شغل، أو تستحمل شكاواهم وغلاظتهم، لأنهم دائما يريدون أكثر. تقضي وقتك وانت حائر كيف تتصرف معهم، خصوصا أنهم يتكاثرون، ولا يترددون في رفع السعر الى الاقصى كلما فهموا أن صاحب السيارة جاء ليتمتع بوقته. السائح لا بدّ أن يدفع الثمن!
في الحقيقة، يجدر بالدولة أن تجد لها حلا نهائيا لقضية ركن السيارات في الشارع، وألا تترك المواطن وجها لوجه مع أشخاص يمارسون مهنة بلا أي سند قانوني، إذا اعطاهم درهمين يجعلونه يحس بالذنب، واذا أعطاهم أكثر يشعر بـ”الشمتة”، ولا يستطيع محاسبتهم إذا ما تعرضت سيارته لأي مكروه، دون الحديث عن العدوانية التي يتصرف بها بعضهم، حتى إنهم لا يترددون في الانتقام من السيارات التي لا يدفع اصحابها ما يطلبون، عبر تخريب عجلاتها، اذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ألم يحن الأوان بعد كي تضع الدولة حدا لهذه المهزلة، وتوفر بديلا جديا لهؤلاء الأشخاص، يسمح لهم بأن يعيشوا بكرامة، بعيدا عن التسوّل المقنع؟
حتى عندما تركن سيارتك في مرآب يفترض أن من يشتغلون فيه عمال حقيقيون، تفاجأ بالخفة والاستهتار وسوريالية الأسعار. يسلمونك عند المدخل ورقة تافهة كتب عليها أن الدفع مسبق وقدره عشرون درهما أيا كانت مدة ركن السيارة. وحين تقرأ على أحد الجدران بفرنسية فصيحة (مع نقطة فوق الصاد):
Il n’est pas pirimis de la ver les voitures!
(لا يسمح بغسل السيارات)
تتأكد من النصب والاحتيال. هناك أزمة ماء فعلا، وأزمة لغة على الخصوص. لكننا يمكن أن نعتبر أخطاء الفرنسية في مرآب مراكشي انتقاماً متأخرا من الاستعمار، ما لا يمكن فهمه هو الأخطاء التي ترتكب في حق اللغة العربية، ليس في مرآب السيارات، بل في إحدى أهم المعالم التاريخية بمراكش، قصر البديع الذي يعود تاريخ تشييده الى القرن السادس عشر. كل الجهد الذي قامت به وزارة الثقافة لترميم المآثر التاريخية والتشجيع على زيارتها بعثره من يشرفون على الترجمة في إحدى قاعات القصر، حيث تعرض خرائط قديمة للمدينة. التعليقات والنصوص بالفرنسية مضبوطة، فيما تبدو النسخة العربية أقرب الى ترجمة “غوغل ترانسلايت” أو مرشد سياحي مزيف في أحسن الفروض. إليكم أمثلة من بعض النصوص التي يفترض أن تشرح الرسوم المعروضة، دون زيادة او نقصان:
“في فصل الربيع لسنة 1883 سنحت لي فرصة جولة في المغرب امتدت بي صحبة بعثة فرنسية في إحدى كبريات عواصم المغرب دون غيرها من حيث معرفة الناس بها وأبعدهن (كذا) موقعا داخل التراب المغربي”
وفي أخرى:
“… في هذا مشرفة (كذا) التصميم الأول لهذا المشهد يرى أسوار عاليه (كذا) مشرفة كما يرى على السور جمع من البلارج أو اللقلق وطيور أخرى”
وفي أخرى:
“… منحوتة ذات مبرز مخطط خطوطا مائلة وهو تصميم مسلول من سربوب خرائط شبه برج قوة صادق يتضمن خمسين خريطة للاقطار الأمريكية”…
مع إصرار غريب على ترجمة كلمة Description، التي تأتي دائما كعنوان ب”تحلية” بدل “وصف” أو “توصيف”…
هذا فقط غيض من فيض، لأن الموضوع يحتاج إلى وقفة مفصلة، لتسليط الضوء على هذه الجريمة اللغوية، إنها مجرد “تحلية”… “حلّي باش تولّي”!