هناك معطى جديد في الساحة الحزبية المغربية، يتمثل في أن فرقاء الصراع داخل هذه الأحزاب أصبحوا يلجأون إلى المحاكم من أجل فض نزاعاتهم الداخلية، لقد بدأ الأمر وسط الأحزاب الصغرى مع بداية العهد الجديد، كلما تنازع زعيمان على قيادة حزب سياسي أو اختلف الزعيم مع أعضاء من قيادة الحزب يلجأ الطرف الذي يعتبر نفسه متضررا إلى القضاء للدفاع عما يعتبره حقا له أو دفاعا عن قوانين تنظيمية أو لوائح داخلية تم تجاوزها أو خرقها حسب الجهة المشتكية. لكن الأمر أصبح يتواتر منذ ما يقارب عقدين من الزمن حتى داخل الأحزاب العتيدة ذات الامتداد التنظيمي العريق.
لماذا أصبح الفرقاء المتصارعون داخل أحزابنا السياسية يتجاوزون القوانين الداخلية واللوائح التنظيمية والمؤسسات الحزبية الوسيطة مثل لجان التحكيم والتأديب، ويلجأون إلى القضاء طلبا للإنصاف؟
بالأمس كانت القنوات الحزبية والمؤسسات التنظيمية هي المنوط بها الحسم في مختلف أشكال الصراع والاختلاف التنظيمي بين الفرقاء، تعلق الأمر بقيادة الحزب مكتب سياسيا أو لجنة تنفيذية ثم مجلسا وطنيا أو لجنة مركزية، وصولا إلى المؤتمر الذي يعتبر سيد نفسه وهو محطة نزال لمختلف الرؤى والتيارات والتوجهات… كانت القوانين الداخلية والمؤسسات الحزبية الوسيطة هي التي تقوم بوظيفة الإنصاف ويحتكم لها المتنازعون، وينتهي المشكل أحيانا حتى دون أن يصل أثره إلى الرأي العام، اليوم كل من اختلف مع الزعيم الحزبي أو القيادة، أو جهة داخل الحزب يلجا إلى القضاء، هل لأن اللوائح الداخلية في التنظيمات الحزبية لم تعد منصفة، ولم تعد قادرة على حل النزاعات بين المتصارعين داخل التنظيم الحزبي الواحد؟ هل كانت ديمقراطية بالأمس ولم تعد اليوم كذلك؟ أم أن طبيعة الصراعات بين مختلف الفرقاء هي التي تطورت بدأت تأخذ منحى غريزيا جذريا أحيانا، ولم تعد المؤسسات التنظيمية الداخلية قادرة على استيعاب هذه الصراعات الحزبية؟
في تقديري، إن العامل المهم الذي كان له الأثر الكبير في نجاح العديد من الأحزاب الكبرى في تجاوز تناقضاتها الداخلية وحل خلافاتها التنظيمية لا يعود في جزء كبير منه لديمقراطية الاحتكام إلى لجان التحكيم والتأديب ومختلف اللجان الوسيطة المكلفة بفض النزاعات واحتواء الصراعات بين مختلف الأطراف المتباينة داخل الحزب، ولكن أساسا بحكم السياق السياسي والثقافي الذي كانت تمر منه هذه الأحزاب مع وجود عدو خارجي سواء في زمن الاستعمار أو في زمن الصراع على السلطة، ووجود إسمنت إيديولوجي كان يربط مختلف الأعضاء بعرى وثيقة مع تنظيمهم الحزبي وشعارات الوحدة الداخلية ومصلحة الحزب، وبالإضافة إلى كاريزما الزعيم المهاب الجانب من طرف جميع الفرقاء الحزبيين كان هناك أيضا ذلك الالتحام الحزبي الداخلي والارتباط الصوفي للعضو بحزبه..
اليوم لم يعد ذلك قائما، لا قيادة كاريزمية ولا التحام عضوي صوفي في الارتباط بالحزب السياسي، ولا لحمة إيديولوجية تجمع أعضاء الحزب بشكل قوي، ولا قدرة للوائح التنظيمية على حل النزاعات الداخلية عبر الوسائط الحزبية، لذلك أصبح المتضررون من أي صراع حزبي داخلي يلجأون إلى القضاء، لأن لديهم ثقة أكبر في إنصافه من القانون الداخلي للحزب، أيضا تكشفت المصالح والذاتيات بشكل كبير داخل التنظيمات الحزبية بحيث لم يعد هناك أي أثر للوساطات، لأن الصراع اتخذ بعدا غريزيا مكشوفا..
وإذا كان الجمهور يرى في لجوء أعضاء حزب سياسي إلى المحاكم، برفع دعاوى قضائية ضد من يقتسمون معهم ذات البيت الداخلي، وقد يعلقون بأن هذا الحزب أو ذاك لم ينجح في حل مشاكله الداخلية بين أعضائه فبالأحرى أن يحل مشاكل المغاربة، فإن لجوء الأحزاب السياسية إلى القضاء لفض نزاعاتهم التنظيمية أمام المحاكم المغربية بشكل رسمي وقانوني، يحمل وجها إيجابيا، فالأحزاب السياسية هي في الأخير كيانات مجتمعية وسياسية قانونية، تتمتع بكامل الشرعية، وبحكم التنصيص عليها في الدستور ودعمها من المال العمومي، فلجوء الأطراف المتصارعة حول القوانين التنظيمية أو الاختلاف حول التمثيلية في القيادة والمشاركة في صناعة القرار الحزبي أو الاختلاف حول اللوائح الداخلية… إلى الاحتكام للقضاء يعني في وجه أساسي منه أن الأحزاب السياسية هي إرث وطني وليست مجالا خاصا للمتنافسين الحزبيين، وأن الشأن الداخلي لأحزابنا يهم الرأي العام أيضا، الذي يصبح شريكا ومراقبا بحكم أن من جيبه تمول هذه الأحزاب وهي ملك جماعي وليس ما يحدث وسطها شأنا داخليا..
لا أرى عيبا في لجوء أي جهة حزبية تضررت من سوء استعمال قوانين داخلية أو من أقصاء أو عدم السماح للتعبير عن نفسها كما تنص على ذلك مقررات الحزب ذاته، لأن هذا سيعزز الاختبار الديمقراطي للأحزاب ذاتها وسيؤدي بنا تدريجيا إلى الانتقال نحو نوع من المواطنة الحزبية، فالعضو الحزبي هو مواطن أيضا وله الحق في اللجوء إلى مؤسسة القضاء إذا كان يثق بها أكثر، حيث يتعاضد هنا الوجود الشرعي للحزب السياسي مع الوجود القانوني، لكن العيب في تقديري موجود في طبيعة ومضمون هذه الدعاوى التي ترفع إلى القضاء في بعض منها والتي لا تعبر عن اختلاف عميق في الرؤى والتصورات واختلاف في المنظورات والمشاريع السياسية الكبرى، ولكن من أجل نزوعات ذاتية مصلحية صغيرة، لذلك فما نحتاج إليه في تطوير الممارسة الديمقراطية هو نزع الطابع الغرائزي للصراع الحزبي ليسمو أكثر حتى نعيد المصداقية والثقة لهذه الأحزاب لدى المواطن.