كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
محمد البصيري و”المنظمة الإسلامية لتحرير الصحراء”
كان أول تحرك في هذا السياق، على يد وطني مغربي قادم للتو من سوريا البعثية الجريحة بعد نكسة 1967، هو محمد البصيري الذي أسس صحيفة “الشهاب” الناطقة باسم “المنظمة الإسلامية لتحرير الصحراء”، والتي كان هدفها الأساسي هو التحرير “المسلح” للأقاليم المغربية الصحراوية، قبل أن يعتقله الإسبان في انتفاضة العيون سنة 1970 ويلفظ أنفاسه تحت التعذيب.
على أنقاض حركة محمد البصيري، ستتشكل حلقة من الطلبة الصحراويين الذين تلقوا تعليمهم في الجامعات المغربية، والتي انطلقت كحركة ثقافية لها مطالب ذات طابع لغوي وثقافي يتجلى ذلك في “الوثيقة العشرية”، نسبة إلى الوثيقة التي كانت تتضمن عشرة مطالب رُفعت إلى الإدارة الإسبانية بالصحراء المغربية، مثل مطالبة الإدارة الاستعمارية ب”إلزامية تعليم اللغة العربية في المقررات الدراسية وإدخال التربية الإسلامية في المناهج التعليمية، وما يرتبط منها بالحفاظ على مقومات الهوية الوطنية بالصحراء”، لكن الردود العنيفة التي قام بها الجيش الإسباني ضد المطالب المدنية للسكان في أوائل السبعينيات والقمع الشرس الذي واجهت به الآلة الاستعمارية مطالب المواطنين والذي أدى إلى قتل ثلاثين شخصا رميا بالرصاص، قلب مسار التحرر وكان الشرارة الأولى لترسيخ الوعي بخيار الكفاح المسلح.
إن الشعارات التي رفعها المواطنون المتظاهرون في منطقة “الزّملة” القريبة من مدينة العيون، تُبرز الطابع التحريري لدفاع الصحراويين المغاربة عن تحرير الأقاليم الجنوبية من الاستعمار الإسباني من مثل “الله يهدّن الأوطان وينصر السلطان”، “بفضلك يا سيدنا تصبح الصحراء بيدنا”… وهو نفس الأمر الذي سيتم تكراره في مظاهرة للشباب في مدينة طانطان في ربيع 1971، المظاهرة التي تم قمعها بقوة، غير أن الأمر هذه المرة سيكون على يد السلطات المغربية، وقد جرى الوضع كله في سياق تقاطبات محلية وجهوية لم تتضح كل معالمها حتى اليوم، ستساهم في جعل مؤسسي جبهة بوليساريو يرتمون في أحضان أنظمة معادية لنظام وطنهم.