كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
ما قبل شهادة الميلاد
يعتبر الاستعمار الولد الغبي للتاريخ، فقد ادعت إسبانيا أنها وجدت الصحراء الغربية أرضا خلاء يحق لها توْطينها وإعمارها كمنطقة إسبانية، وحين أعلنت جبهة بوليساريو عن نفسها كحركة سياسية، بدا كما لو أن تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب لم يبدأ إلا في بداية السبعينيات مع تأسيسها سنة 1973.. والواقع أن مواجهة المحتل الإسباني الذي دخل الصحراء المغربية منذ 1884 وجد مقاومة كبرى من طرف الساكنة برغم ضعف الدولة المركزية في “مراكش”، إذ لم تتمكن إسبانيا من احتلال طرفاية إلا سنة 1919، ولم تستطع إقامة أول ثكنة عسكرية لها بالعيون إلا بعد نهاية المقاومة في سوس وأنحائها بقيادة الشيخ مربيه ربه ماء العينين الذي انسحب إلى أطراف الصحراء.
إن انتفاضة قبائل آيت باعمران والعمليات العسكرية البطولية التي قادها أعضاء جيش التحرير نجحت في تحرير الكثير من مناطق الجنوب المغربي من سيدي إفني وآيت باعمران حتى طرفاية قبل عملية “إيكوفيون” سنة 1958، وترسيم النفوذ الاستيطاني لإسبانيا في 10 يناير 1958 بإعلانها الساقية الحمراء ووادي الذهب مقاطعة إسبانية… ولم تخمد ملحمة مقاومة المستعمر بالمنطقة.
هنا ستنصهر عناصر متناقضة في ذات الفرن المغربي بين الشمال والجنوب، في ظل دولة خارجة من استقلال غير تام إلى واقع صراع حاد حول مركز السلطة السياسية وشكل بناء دولة مغرب ما بعد الاستقلال، الذي جعل المطالبة باسترجاع الأقاليم المبتورة قصراً من الرقعة الجغرافية للمغرب جزءا من حركيته وإن ليس بنفس إلحاحية تثبيت السلطة المركزية، حيث اكتفت المملكة منذ بداية الستينيات بخوض معركة دبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة لإنهاء احتلال الأقاليم الجنوبية.
وبما أن الصحراء أصبحت رقعة مهمة في خريطة التجاذب الداخلي نفسه، ومحط أطماع ورهانات عواصم متعددة في المحيط الإقليمي، فإنه بدل تدعيم الخط الدبلوماسي الذي يعتمد على القانون الدولي وميزان القوى في مسار العلاقات الدولية والشرعية الأممية، بتعبئة جماهيرية في اتجاه تحرير المناطق الواقعة تحت الاحتلال، جرت مياه كثيرة بين طموحات ونوازع شباب متقد حماساً من أبناء جيش التحرير ممن انخرطوا في التيارات اليسارية الراديكالية بمختلف الجامعات المغربية، الذين كانوا ينوون إنشاء بؤر ثورية لمحاربة النظام، وبين المسالك الدبلوماسية للسلطة المستكينة لنهج أساليب التفاوض واستقراء عناصر تناقضات العلاقات الدولية، وأصبحت الصحراء جزءاً من الصراع الداخلي حول شكل السلطة والنظام السياسي المراد اختياره بين الحكم والحركة الوطنية وما تفرع عنها من حركات يسارية راديكالية، قبل أن يتم تحريف أهدافها في سياق صراعات الحرب الباردة وتناقض اتجاهات وخيارات الأنظمة المهيمنة في منطقة شمال إفريقيا.