“الإنسان مهرج يرقص فوق الهوة” بلزاك
ارتبطت شهرته بالرباط العاصمة، وبشارع محمد الخامس وبالمقهى الشهيرة قبالة البرلمان أساسا، لكنها امتدت خارجه لتعم المغرب، محتال ظريف، نصاب ذكي، يدخل السجن بجريرة ويخرج ليرتكب أكبر منها، مستغلا طمع النايس أو حاجتهم وسذاجتهم في مغرب ما بعد الاستقلال، إنه “سلطان باليما” الذي تختلط في مسيرة حياته الحقيقة بالأسطورة، الواقع بالخيال، ذلك أن شهرة هذا الرجل المحتال جعلت الذاكرة الجماعية للرباطيين تنسج عنه حكايات خيالية وتسندها له لتبرز تفرده كلص ظريف، ونصّاب داهية.. برغم خطورة جرائمه لا يتحدث عنه الرباطيون اليوم إلا بنوع من الطرافة والإعجاب بألاعيب النصب والاحتيال التي اقترنت به في أكبر شارع يشق المدينة الحديثة بالرباط، إنه عفو مرور الزمن الذي يجعل الذاكرة الجماعية تصفح حتى عن عتاة المجرمين بل تحولهم أحيانا إلى أبطال رمزيين، هذا كان شأن محمد الوزاني، الذي اشتهر باسم سلطان باليما في زمن كان صعبا فيه التشبه بملك البلاد. وعلى عهد الراحل الحسن الثاني.
لباس أنيق ونباهة في اصطياد الأرانب
كان أنيقا في لباسه، دوما يُرى وسط مقهى باليما بحديقتها، وفيما بعد بمقهى النهضة الشهيرة، في بذلة باذخة وحذاء لامع، أو جلباب مخزني وطربوش أحمر وسلهام وعصا خيزران ظلت تميزه عن غيره، يتوسط المقهى الشهير في الطابق الأرضي فندق باليما يراقب عن كثب فريسته من ضحايا العسف أو الطامعين في حظوة أو المشتكين من جور.. الذين كانوا يأتون من كل فج عميق إلى العاصمة الإدارية، بالضبط إلى مقر محكمة الاستئناف، التي رغم تحولها إلى مجلس النواب، فإن محمد الوزاني لم يغير عاداته وإن تغير زبناؤه وضحاياه، حيث أصبحت مقهى باليما الشهيرة قبالة البرلمان بالرباط، محجا للسياح الأجانب والبرلمانيين والشخصيات العمومية وكذلك للمواطنين الذين يقصدون نواب دوائرهم لقضاء حاجة أو رفع ظلم أو طلب وساطة لمنصب أو مغنم أو عمل أو طلبا للوساطة لانتاع حق مستحق أو غير مستحق.. لم يغير “سلطان باليما” مكان جلوسه إلا لماما، وهناك كان يختار ضحاياه بعناية فائقة، ويبتكر خطط احتياله ونصبه بمكر.. لقد قدر لهذا الفندق الباذخ أن يجمع كل النقائض بين أن يأوي الزعيم الكوبي الثائر تشي غيفارا وشخصيات سياسية أو فنية كبرى وفي ذات الآن محمد الوزاني النصاب المحتال.
سلطان باليما وبقر علال واجتماع الغابة العربية
كان المغرب حديث عهد بالاستقلال، وكانت النية والسذاجة المصاحبة بمطمع الاستفادة من مغانم المرحلة هي السائدة، فيما كان هذا الرجل الجبلي الذي يتميز بجثمانه الفارع ورجله الضخمة ولباسه الملكي، يتصيد بأعين الثعالب ضحاياه من أصحاب الحاجة أو الطامعين للمغانم أو ربح قضية في محكمة أو إدارة خارج روتين البيروقراطية، وقد جذب إليه الأنظار بحسن حديثه في السياسة والشؤون العامة داخل وخارج المغرب، كان يتتبع النشرات الإخبارية لإذاعة بيبيسي العربية، وأصبحت تحليلاته وأخباره تثير الزبناء في المقهى الشهير في الشارع المخزني الذي سيحمل اسم محمد الخامس.. كانت لكنته الجبلية تضفي على أحاديثه الكثير من الدعة والسحر، وكان يفتي في السياسة كما في الاقتصاد والثقافة رغم أن لا أحد يعرف مستواه التعليمي ولا مهنته الأصلية غير أنه أكبر محتال عرفته مدينة الرباط.
كانت تحليلاته الساخرة للأحداث تثير علية القوم وبسطائهم، ومما يروى عنه وليس لنا سبيل لتأكيده أو نفيه، لأن أمثال سلطان باليما الذي حكيت عنه نوادر كثيرة اختلط فيها الحقيقي بالموضوع، تصبح لهم شاعرية مبتذلة لكن تأثيرها مضمون في جذب النفوس وسحر العقول، أنه هو صاحب عبارة “بقر علال”، التي قالها عن أتباع علال الفاسي الزعيم الاستقلالي الكبير، إذ يرى البعض أنه بحكم انحداره من وزان فقد كان متعاطفا مع حزب الشورى والاستقلال، بل إن آخرين يذهبون إلى كون سلطان باليما كانت له علاقة قرابة مع محمد بلحسن الوزاني وهو ما لم نستطيع التحقق من صحته ممن عاشوا المرحلة. وكان يرى الحشود الكبيرة تصطف لتحية علال الفاسي، كلما مر من إحدى شوارع الرباط، فأطلق عليه عبارته الساخرة “بقر علال”، التي ستصبح أشبه بإرث ساخر بين المغاربة في معيشهم اليومي.
وغداة اجتماع إحدى القمم العربية في السبعينيات، سأله أحد زبناء مقهى باليما حول توقعاته حول قرارات القمة، فعلق قائلا بقفشاته الساخرة: “لا تنتظروا شيئا من اجتماع الغابة، لا خير في اجتماع الأسود والفهود والنمور..” في إشارة إلى زعماء بعض الدول العربية يومها: حافظ الأسد وجعفر النميري والملك فهد.
نصّاب ينتحل صفة سليل الأسرة الملكية
“لكل إنسان سخافاته، إلا أن السخافة الكبرى أن لا يكون للإنسان سخافات” كما يقول زوربا لسيده، لكن سخافات هذا الجبلي الذي خلد اسمه كسلطان في أجمل مكان في الرباط، كان مشوبا بقوة الطرافة والدهاء والإخراج المسرحي المتقن، فخارج السلطان ملك البلاد الحقيقي، لم يعرف المغاربة إلا ثلاثة سلاطين: سلطان الطلبة والسلطان العريس الذي يبارك له المحتفون سلطنته ليلة الدخلة، وسلطان باليما الذي كان يقدم نفسه بجرأة غريبة على أنه من الأسرة الملكية، كان يُرى صباحا وهو يتجول في السويقة بجلبابه المخزني وطربوشه الأحمر وبلغته الأنيقة، يلوح لصاحب هذا الدكان بعكازه ليزيل سلعه التي تعيق المارة، ويتوعد آخر بأنه يعرف أسراره في رفع ثمن بيع سلعه للسياح، والناس تقصده رهبة وخوفا من تهديداته لتقبل كتفه أو يده، وتتجنب سخطه، باعتباره مقربا من السلطان، بل إن العديد من المخازنية كانوا ينحنون أمامه ويقدمون له التحية لهيبته، معتقدين أنه “شريف” ولد دار المخزن، هذا البعد أعطاه هالة لا توصف زاد منها أنه كان ينجح عبر وساطاته في حل مشاكل عديدين وكان وسيطا ناجعا لتوظيف البعض.
ظل محافظا على طقوسه، لباسه الأنيق، علبة سيجارته “بال مال” وولاعته النحاسية، لباسه الملكي وطربوشه المخزني وعكاز الخيزران، يضع رجلا على رجل بالمقهى الشهيرة، يرتشف قهوته السوداء ويدخن بشراهة وبطريقة ملوكية يوجه الأوامر كما الوعود والوعيد. والويل لمن يرفض طلباته، لأنه كان مثل راديو المدينة قادرا على تسويد سمعة علّية القوم ممن رفضوا الانصياع لرغباته. فيقسم على هذا أنه لن ينجح في البرلمان المقبل، وذاك أنه لن يصبح أبدا سفيرا، وآخر بأنه سوف يربيه ويطرده من منصبه بحكم انحداره من الأسرة العلوية كما كان يوهم الناس.. وكلما عزم مغادرة المقهى نادى النادل وأخرج رزمة مالية ضخمة وسلم ورقة منها إلى النادل ليغري المتلصصين الفضوليين عليه ويزيد من منسوب صدقية أنه رجل غير عادي، ويغادر إلى حيث يقوده احتياله نحو ضحية أخرى.
وقائع نصب طريفة بمعيار زمننا، ضحاياها مغاربة وأجانب
تحتوي السجلات السوداء لمحاكم الرباط، العديد من الوقائع التي تضخمت في المخيال الجماعي الرباطي وظل كل جيل يغديها حتى اختلط الغريب والعجيب بالواقعي والحقيقي، كانت أول زلة قادت إلى اعتقال سلطان باليما حين باع المدافع التاريخية للأوداية إلى سائحين أمريكيين، بصفته قيما على المعلمة التاريخية البهية، قبض الثمن واختفى، وحين استقدم المحتال عليهم شاحنة لحمل المدافع التي اشتروها بعقد مزور، استوقفهم الأمن ليكتشفوا الخديعة.. تحركت الضابطة القضائية بحكم جنسية المشتكين فاعتقل محمد الوزاني وحوكم، لكنه لم يتوقف عن مسلسل احتياله.
من أطرف سرقاته أنه اكترى سيارة جيب شبيهة بما كان لدى وزارة الفلاحة وشاحنة وارتدى وزرة بيضاء، وظل يقصد “الكسّابة الكبار للبقر في جهة الغرب، ويقدم نفسه على أساس أنه بيطري، وأن هناك مرضا خطيرا قد يقتل القطيع بكامله بحكم العدوى، ويبدأ في الكشف عن الأبقار، ويختار منها ما سمن وزاد ثمنها، ويأمر معاونيه بحملها في الشاحنة، ويطمئن الكسّاب أن باقي الأبقار سليمة، وأن الأبقار التي حملها في الشاحنة ستتم معالجتها لتعاد لصاحبها، وغالبا ما كان يختار سوقا قريبا لبيع الأبقار التي سرقها بابتداع حكايات ظريفة.
زد على أنه كان يحمل معدات المهندسين التي يحتال لاستجلابها، ويختار الإقطاعيات الكبرى في البوادي المغربية، وينصب معداتها ويبدأ في رسم طريق وسط أراضي مترامية الأطراف، وحين يسمع صاحب الأرض بما يحدث يقصد سلطان باليما وصحبه للاستفسار، فيخبره الوزاني كأنه يلقي بسمع ضحيته خبرا سريا من الرباط العاصمة: “إن الطريق ستشق أرضك”، وهو ما يقع بشكل غير طيب في نفس الإقطاعي، وحين تنطلي عليه الحيلة يبدأ سلطان باليما في استدراجه بأنه يمكن أن يغير الطريق ويدخلها في أرض جاره المحاذية مقابل عمولة ثمينة، ويجمع معداته ويرحل بلا رجعة، تاركا الفلاح الساذج مطمئنا لسلامة أرضه وهو غانما لمبالغ مالية هامة.
كان نصب محمد الجبلي، مبنيا على استقصاء المعلومات الدقيقة حول ضحاياه، إذ مما يحكى أنه علم بأن فلاحا بنواحي سيدي سليمان كانت له قضية مستعصية في المحكمة، فقصده في سيارة مرسيديس أنيقة كانت تستعمل كطاكسي كبير نزعت علامتها ونزل على ضحيته ضيفا، وحدثه عن قضيته التي كان يعرف كل تفاصيلها وأنه سيتدخل لدى قاضي كبير ليحل مشكلته مقابل أن يحمل له شاحنة من غلة الليمون، وافق الفلاح على تدخله وشكره، لكنه لحظة الجد حين حان موعد المحكمة كانت الوقائع تسير ضد ما كان يأمله الفلاح الضحية، في الوقت الذي غاب فيه سلطان باليما مثل فص ملح ذاب.
كان صيادا محترفا، وكان له معاونون يجمعون له الأخبار والمعلومات عن أصحاب القضايا والمشاكل والطموحين الجشعين، ويقودون الطرائد من ضحاياه نحوه بدهاء، وكانت له دراية وخبرة كبيرة بطبائع المغاربة، مستغلا سذاجتهم في الستينيات والسبعينيات وبداية الثمانينيات خاصة، ومما يحكى عنه أنه كان يأتي بمرضى يعانون من مشاكل صحية ومستعدين لدفع الغالي والنفيس من أجل الشفاء، فيدعي أنه طبيب وكانت وسيلة كشفه هي أنه يجري لهم “راديو أو سكانير” للفحص، ولم يكن هذا الجهاز غير مصعد فندق باليما يدخل المرضى الضحايا إلى المصعد ويحرك نحو الطابق الأعلى ثم الأسفل ويأخذ العمولة ويحدد موعدا لن يراه فيها المريض الضحية بعدها أبدا.
حين حرمت المحكمة اللباس المخزني على سلطان باليما
تعددت أساليب سلطان باليما في النصب والاحتيال، ومعها كثرت شكاوي المواطنين من ضحاياه، ورغم اعتقاله ومحاكمته أكثر من مرة لم يقلع عن عاداته، وصل الأمر إلى الملك الراحل الذي لم يكن يؤمن بمزاحمته السلطنة في قلب العاصمة الرباط من أي كان، إذ لو كان فيها اثنان لفسدتا، وتقول الحكاية إن إدريس البصري تكفل بنفسه بإحضار “سلطان باليما” إلى فيلا كان سلطان المغرب الحقيقي في مكان يراه فيه دون أن يُرى، وأخذ البصري يستدرجه للحكي عن أشكال احتياله ونصبه، والملك ينصت من وراء حجاب للكثير من النوادر والحكايات التي رواها سلطان باليما ويرتمي ضحكا.. وقد صدر في حق محمد الوزاني حكم غريب في تاريخ المملكة وهو حرمانه من ارتداء اللباس المخزني بمقرر قضائي.. وكما ظهر بشكل ملتبس غاب في زحمة التحولات التي أصابت الرباط وأهلها، لكن لم يختف المحتالون بل كثروا وتعددت أشكال نصبهم لكن بدون طرافة سلطان باليما.