منذ أسبوع، أصبح بإمكان الشاب يوسف الملياني وصديقه أمين أن يصدحا بأغنيتهما الشهيرة “شرّ زيدي كبّي أتاي” أمام جمهورها الحقيقي: “الحبّاسة”، بعيدا عن يوتوب، وعلى المنصة المناسبة: عين قادوس!
لا بد من الإشارة إلى أن “التراك” الذي انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل النار في الهشيم، أقرب إلى”المونتيف” منه إلى الأغنية، وليس مفاجئا أن ينتهي بصاحبيه وراء القضبان، علما أن “الراپ” بطبيعته فن عكس التيار، ينتعش بين المهمشين والثائرين والمنبوذين، يقفز على الخطوط الحمراء، ويلعب بالمواضعات، ولا غرابة أن يقود أحيانًا إلى السجن. عندما تغني بالدارجة الفصحى:
“بلادي أنا لامور هو السيكس فابور/
القاصرات أرا من اللور خص غيكون الموطور”…
لا تستغرب أن تلاحقك النيابة العامة بتهمة “التحريض على دعارة القاصرين”، وأن يحكم عليك القاضي بالسجن، بل عليك أن تتحمل ضريبة التهور!
القفز على الخطوط الحمراء أسرع طريق الى الشهرة، وإلى السجن أيضا. وعلى يوسف وأمين أن يحمدا ربهما على نعمة عين قادوس، لأن “الراپ” في بلدان أخرى لا يقود الى الحبس فقط بل إلى حبل المشنقة، كما هو الحال في إيران حيث يواجه المغني توماج صالحي عقوبة الإعدام بعد أن أدين على خلفية مشاركته في المظاهرات التي هزت بلاد الملالي عام 2022، احتجاجا على مقتل الشابة الكردية مهسا أميني على يد الشرطة…
المحكمة الابتدائية في فاس وجهت للشابين تهمة “تحريض القاصرين على الدعارة أو البغاء، والتحريض على ارتكاب جناية أو جنحة بواسطة وسيلة إلكترونية تحقق شرط العلنية والمشاركة في ذلك”، ورغم طول صكّ الإدانة وخطورته، فإن وقعه أقل هولا من تهمة “الإفساد في الأرض”، التي تلاحق الشاب الإيراني، وهي أبشع تهمة يمكن أن توجه إلى شخص في الجمهورية الإسلامية. نحمدو الله على عين قادوس!
من اللافت أن الأغنية المجرّمة عادية جدا، موسيقيا وشعريا وأداء، لا ترقى إلى روائع “الراپّ” المغربي، كما تجسدها أغاني مسلم والبيغ وديزي دروس، على سبيل المثال، ومن الواضح أنها اشتهرت بسبب كلماتها المتهورة وليس بناءها الفني. لقد راكم “الراپ” المغربي ريبوتوارا محترما، منذ ثلاثة عقود، مما يسمح بتقييم التجارب التي تطفو على السطح، وعزل الغث من السمين. واضح أن سبب انتشار الأغنية المنعنعة يتعلق بكلماتها التي تتجاوز المواضعات، خصوصا المقطع المتعلق بالقاصرات، تماما مثل أغنية “عاش الشعب”، التي انتشرت قبل سنتين، ليس لجودتها الفنية، بل لأن نبرتها التحريضية عالية، وخطابها مباشر، يحمل جرعة زائدة من الجرأة والشعبوية، دون أن يخلو من فجاجة، وقد انتهى بعض أصحابها أيضا في السجن ب”مونتيفات” مختلفة!
كلّ ممنوع مرغوب. يوسف45 ومين گراف – الأسماء الفنية للشابين- قامرا بأغنية على حافة الممنوع، و”جابو الربحة”، وعليهما أن يتحليا بالروح الرياضية. لكن ذلك لا يمنع من تسجيل ملاحظات حول الحكم، الذي كنّا نتمنى أن يقتصر على الغرامة دون حبس، على سبيل التأديب، لأن الأغنية في النهاية تظل مجرد أغنية، مهما تخبطت كلماتهما وتهورت. ولو طبقنا نفس الحكم على كل التجاوزات المرتبطة بحرية التعبير، لكان نصف من يملكون قنوات على يوتوب في السجن!
نحن أمام جيل “لا تحتمل خفته”، لكن خفة اللسان ليست هي خفة اليد. كان يمكن للعدالة أن تدين أمين ويوسف بغرامة أو سجن موقوف التنفيذ في أقسى الاحتمالات، كي تردعهما وتبعث رسالة الى الآخرين، ممن يمكن أن يغريهم المشي على طريق الممنوع. لكن سنتين سجنا نافذة، عقوبة قاسية، لا تتناسب مع طبيعة الجريمة، ونتمنى أن يجري تداركها في الاستئناف، لأن التصدي لمثل هاته الظواهر لا يمر عبر السجن، بل يحتاج إلى مقاربة أكثر شمولية، تؤطر استعمال وسائل التواصل الاجتماعي وتعيد الاعتبار إلى مؤسسات التنشئة والتعليم، لتحصين الأجيال الصاعدة من فوضى العولمة. العالم يعيش طفرة تكنولوجية كبيرة، وتحولات جذرية، تعصف بالثوابت، وتغير العادات والقيم. الدول التي تحترم نفسها تحاول وضع بعض النظام في هذه الفوضى الكونية، التي تسببت فيها وسائل التواصل الاجتماعي وما يدور في فلكها.
فرنسا، مثلا، انكبت مؤخرا على وضع إطار قانوني لعلاقة الأطفال بالهواتف، والشاشات عموما، من خلال مقاربة شاملة يتدخل فيها البرلمان والحكومة، اعتمادا على تقرير طلبه رئيس الجمهورية من فريق من الخبراء، يرصد الآثار السلبية لاستعمال الهواتف والشاشات، ويقيّم تأثير وسائل التواصل الاجتماعي. التقرير خلص إلى أن كثرة استعمال الهواتف الذكية يؤثر على جودة النوم ويدفع الى العزلة، وأوصى بأن يظل الطفل في منأى عن كل الشاشات حتى يتجاوز 3 سنوات، وألا يستعمل البورتابل قبل 11 سنة، وألا يوضع بين يديه هاتف ذكي يسمح بالولوج الى انترنيت قبل 13 سنة.
فيما تدرس بعض الدول الغربية وضع قيود على “تيكتوك”، في إطار أمنها الرقمي الاستراتيجي، كي لا تظل المعطيات الشخصية لملايين المواطنين في متناول العملاق الصيني. الصين التي مازالت تطور محركات بحث محلية كي تستغني عن غوغل وغيره من الأدوات الغربية، وتحذو حذوها كثير من الدول مثل روسيا وإيران وكوبا… كي لا تبقى خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية، وشركاتها الأخطبوطية.
في المغرب، مازلنا بعيدين عن مثل هاته المقاربات، ولا نفكر في أمننا الرقمي الاستراتيجي، رغم الهزات العميقة التي يشهدها المجتمع بسبب هاته الطفرات. مازلنا نقف مكتوفي الأيدي أمام تحولات جذرية تعصف بكثير من العادات الاجتماعية والأسرية. المراهقون يعيشون في هواتفهم، لا يلتقون مع أسرتهم إلا نادرا، والأطفال يطلقون قنوات عبر يوتوب وحسابات على تيكتوك، دون علم أولياء امورهم حينا وبتشجيع منهم حينا آخر. فوضى رقمية خطيرة، تظهر فظاعتها، من حين لآخر، عبر محتويات صادمة، تتجاوز كل الخطوط الحمراء، كما هو الحال مع الأغنية المنعنعة و”المعايدة العمياء” وشطحات امي نعيمة… وغيرها من الانحرافات التي لا نجد من وسيلة لاحتوائها إلا بالقمع، علما أن المجتمعات الحيّة هي التي تحصن نفسها بالتنشئة السليمة والقوانين الحكيمة، دون السقوط في الرقابة والمنع والسجن. آن الأوان أن نفكر جديا في أمننا الرقمي الاستراتيجي!
عن الأغنية المنعنعة
بواسطة جمال بودومة