الفلاحون الفرنسيون حركوا التراكتورات والشاحنات، هذه الأيام، وزحفوا على كبريات المدن وأغلقوا مداخلها كي يمنعوا المرور، واستطاعوا شل الشرايين الاقتصادية في البلد. عندما يغضب سكان القرى يحاصرون المدن، لأن الحاكمين يوجدون دائما في المدن، في الوزارات والإدارات والسيارات الفارهة والمكاتب المكيفة، وفي عينة من البشر لا تعرف الريف إلا في نهاية الأسبوع أو أيام العطل أومن خلال الكتب والأفلام الرومانسية التي تدور في الحقول والأنهار والغابات… وما أجمل الريف ونسيمه العليل، كما في الإنشاء المدرسي. لكي تفهم الحكومة أن السكين وصلت إلى العظم، ينبغي إزعاجها بالمحراث والجرّار والخرفان والأبقار وروثها، وما ضاع حق وراءه مزارع على متن جرار، يتطاير منه الشرر. بعد سنوات من الصبر، تحول المزارع الفرنسي إلى قاطع طريق كي يوصل رسالته، والضحايا هم بقية المواطنين الذين تعطلت مصالحهم، وأمضوا ساعات طويلة ممنوعين من الالتحاق بأشغالهم وبيوتهم. بذلك نجح الفلاحون في نقل عدوى الغضب إلى بقية الفرنسيين، وزاد الضغط على الحكومة التي اضطرت إلى التحرك بسرعة لحل الأزمة قبل أن تتفاقم، وتكون عواقبها السياسية وخيمة، خصوصا أن الانتخابات الأوربية على الأبواب، في يونيو المقبل، واليمين المتطرف يستعد لموسم الحصاد، ولن يتردد في استعمال الجرارات التي تحاصر المدن لاكتساح الاستحقاق. الحكومة الفرنسية حلت المشكلة في وقت قياسي، واستجابت لمعظم المطالب كي تنهي الأزمة قبل معرض الزراعة، الحدث الأكثر شعبية في البلاد، المرتقب في غضون أسابيع قليلة. هكذا نجح رئيس الوزراء الجديد غابريال أطال في امتحان الزراعة، رغم أن الحل جاء على حساب البيئة والمشروع الأوربي. ببساطة شديدة، كي تحل المشكلة، تخلت الحكومة عن عدد من التعهدات في المجال البيئي وأخرى في استكمال البناء الأوربي إرضاء للرأي العام، ولا يمكن أن نلومها على ذلك، لأنها في النهاية أنصتت للشعب، فغالبية الفرنسيين يؤيدون احتجاجات المزارعين، والفلاح في بلاد الغاليين يحظى بنوع من التقديس، رغم أن المهنة أصبحت صعبة جدا ولا تغري أحدا.
في المغرب أيضا يحتج سكان المناطق النائية، دون أن ينتبه إليهم أحد، رغم أن مطالبهم مشروعة وغضبهم مبرر. وعندما يفكرون في الزحف على المدن، التي يوجد فيها المسؤلون، تمنعهم قوات الأمن. منذ أكثر من ثلاثة أشهر لم تتوقف التظاهرات في مدينة فكيك، بأقصى الشرق على الحدود مع الجزائر. السكان يرفضون تفويت القطاع المائي إلى شركة خاصة، لأسباب وجيهة، على رأسها الخوف من ارتفاع الفواتير واستنزاف الفرشة المائية، خصوصا أن الأمر يتعلق بواحة شديدة الخصوصية، تعوّد سكانها على استغلال مائها بطرق عريقة، أثبتت نجاعتها على مر السنين، في مد الساكنة بالمياه الصالحة للشرب وسقي الأرض، التي تجود بالخيرات رغم قساوة التضاريس والمناخ، مع الحفاظ على المخزون الاحتياطي في كل الظروف.
لم يكتشف المغاربة احتجاجات الفكيكيين، إلا عندما خرجت نساء المدينة عن بكرة أبيهن ملفوفات في الحايك، لباس المنطقة التقليدي، في لوحة بديعة، ناصعة البياض، تدل على كثير من الرقي والذوق الرفيع. وإذا كانت ملابس المحتجات تثير الانتباه، فإن ملابسات الصفقة تتير انتباها أكبر: في 26 أكتوبر الماضي، رفض أعضاء المجلس البلدي مشروع التفويت بالإجماع، خلال اجتماع استثنائي. ستة أيام بعد ذلك، دعا رئيس المجلس عبد النبي عافي إلى اجتماع استثنائي جديد، وعرض المشروع مجددا على التصويت ليحصل على تأييد تسعة أعضاء مقابل رفض ثمانية. ما الذي حدث؟ وما الذي جعل عافي ومن معه يغيرون موقفهم؟ إنه لقاء مع عامل الإقليم. من الطبيعي أن يزيد توجس السكان، ويعتبروا أن المجلس الذي انتخبوه قد خانهم حين خضع لضغوط العامل!
لا شك أن تفويت تدبير الماء للشركة الجهوية متعددة الخدمات، الشرق للتوزيع، يعد خصخصة للقطاع، ومن حق السكان أن يعبروا عن رفضهم لذلك، حتى لوكان المشروع وطنيا، وقبلته بقية الجماعات الترابية، فإن لكل مدينة خصوصيتها، ومثل هاته الصفقات لا تتم بالإكراه. لا يمكن إدخال فكيك قسرا في المشروع، رغم الرفض الذي عبر عنه السكان، بمن رئيس المجلس البلدي أول الأمر، قبل أن يقلب الموقف والمعطف في ظروف مشبوهة، وذلك في حد ذاته سبب يدعو للاحتجاج.
من الجيد أن تفكر الدولة في هيكلة ناجعة لتدبير الماء والكهرباء والصرف الصحي والإنارة العمومية، وأن تعهد بذلك لشركات تستطيع تأهيل البنيات التحتية وتوسيعها، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون على حساب الساكنة ودون موافقتها. المنهجية لا تقل أهمية عن مضمون الصفقة. المشاريع التي لا تعتمد مقاربة تشاركية، ولا تدمج في حساباتها مصلحة المواطن والبعد الاجتماعي، مهما كانت أهميتها، تبقى أسيرة الشعار المعروف: زيد الشحمة فظهر المعلوف… لذلك يتوجس الفكيكيون من شركة الشرق للتوزيع.
قبل هذه الاحتجاجات، كان جل المغاربة يربطون فكيك بالسعادة. حين تكون “بخيير” ويسألك أحدهم: “كيداير”؟ ترد عليه: “فوق فكيك”… أي في أبهج الحالات. لا أعرف القصة التي جعلتنا نعتقد أن سكان المدينة، التي توجد في نهاية الجغرافيا، سعداء ولا ينقصهم إلا النظر في وجهنا العزيز، لكننا اكتشفنا اليوم أنهم ليسوا أبدا “فُوقْ فكيك”، بل في فكيك نفسها، ويريدون الذهاب إلى بوعرفة للاحتجاج أمام العمالة، لكن السلطات تمنعهم!