“رب كلمة قالت لصاحبها دعني” مثل عربي
اللسان في معناه الحسي هو جزء من بنيان الجسد، “عُضْو لَحْميّ عَضَليّ مُسْتطيل مُتَحرِّك في الفَم يَصْلُح للبَلْع والنُّطْق وفيه حاسَّة الذَّوق”، ففي المعجم الوسيط: “اللسان جسم لحمي مستطيل متحرك يكون في الفم ويصلح للتذوق والبلع وللنطق، مذكر وقد يؤنث، جمعه ألسنة وألسن ولُسُن، ولسن الخبر أو الرسالة، يقال أتاني أو أتتني منه لسان، ويقال فلان ينطق بلسان الله أي بحجته، ولسان الثناء يقال لسان الناس عليه حسنة، وفي التنزيل العزيز {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} (الشعراء84)، أي ثناء حسناً باقياً.
ولسان القوم، المتكلم عنهم، ولسان الحال ما دل على حالة الشيء وكيفيته من الظواهر، ولسان النار شعلتها. اللسن الكلام واللغة، يقال لكل قوم لِسْن، والملسون حلو اللسان يقول ولا يفعل.. إنه جزء من الجهاز الصوتي، وأطلق اللسان على اللغة من قبل إطلاق السبب على المسبب، باعتبار اللسان هو آلة الكلام، قبل أن يميز فرناند دو سوسير بين اللغة التي هي ملكة مشتركة بين البشر واللسان الذي هو ظاهرة اجتماعية لعشيرة لغوية ما، والكلام الذي هو إنجاز فردي ملموس بوعي وباختيار.. اللسان إذن جارحة، ورغم أنه ليس فيه عظم إلا أنه جارح بالفعل ووقعه أشد مضاضة من السيف المهند. بل اللسان هو مفنينا أو مُحْيينا، مصدر حتفنا أو موطن خلودنا، وما أعطى ميزة الإنسان هو اللسان الذي اعتبره هايدغر مأوى الكائن البشري، إنه موطن أسرارنا والجدار الذي نختبئ وراءه ونخبئ فيه وجودنا وأسرارنا، ف”المرء مخبأ تحت لسانه” كما في جاء القول المأثور.
اللسان أكثر من جارحة، فهو موقظ للغرائز وفتنة الجسد لحظة الانتشاء وبدونه لا تكتمل النشوة الكبرى في سطوة الجنس، وهو من يُدخلنا نعيم الجنة أو جحيم النار، فعن معاذ بن جبل: قال: “قلت يا نبي الله: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم”، وروي عنه رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من وقاه الله ما بين لَحْييه دخل الجنة”.
ولعَظَمة اللسان اعتُبر واليد عماد البنيان البشري، بل محددان لهوية المسلم وركن من أركان إيمانه، يقول الرسول(ص): “المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده”، إنه روح وليس عضلة فقط، يقول زهير بن أبي سلمى:
وَكَائن تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ زِيَادَتُهُ أَو نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
ولأن الله حفظ اللسان وهو بين فكي الأسنان، فإننا حين نرفع الدعاء نقول: “اللهم احفظنا كما حفظت اللسان”، هذا اللسان المحفوظ مصدر الحياة قد يغدو موطن الموت: فالعرب تقول:
يصاب الفتى من عثرة بلسانه وليس يُصاب المرء من عثرة الرِّجل
اللسان هو التحقق الجماعي للغة، إذ يميز اللسنيون بين langue وlangage، وأصل اللغة في العربية: الانحراف، لغا فلان عن الطريق أي انحرف عنها.. ومنها اللغو أي الانحراف بالكلام عن جادة الصواب، في القرآن الكريم “والذين هم عن اللغو معرضون”. في البدء كانت الكلمة كما في الكتاب المقدس، وكان اللسان واحدا إلى أن بلبل الله لسان أهل بابل فتفرقوا.
أما الصحافة فهي في التعريف العام هي جمع وتحليل الأخبار وتقديمها إلى الجمهور بعد التأكد من مصداقيتها بالاعتماد على وسائل مهنية: إنها الإنباء والإعلام والإخبار، لسان حال حزب أو أمة أو وطن “لسان المغرب” كأول جريدة، أو مجموعة وطنية.. إنها قلب الديمقراطية وحارستها، ولأنها تفترض وجود مرسل وجمهور متلقي فإنها تحتاج إلى لسان مخصوص وإلى قواعد مهنية وتوافقات أخلاقية تكون أشبه بدستور الصحافيين تقود الإنتاج الصحافي نحو التجويد والسمو لملامسة النموذج، وتكون أيضا إطارا للاحتكام..
عقدة اللغة، أستعير العبارة من كتاب عبد الله بونفور الذي يحمل نفس العنوان بالفرنسيةle nœud du langage، دون أن أنجذب إلى حقل الانشطار اللسني.. تحضرني الأفعى والشجرة ذات الفاكهة المحرمة، الأفعى بلسانها المتعدد/ المنقسم/ المنشطر الذي به تتنفس وتحيا، لذلك لقب المنافق، بذي الوجهين وذي اللسانين… ومنذ نزل آدم إلى الأرض بسبب الأفعى/ الشيطان، وتعددت سلالته بُلبل اللسان وتعددت الجماعات، اختلاف الألسن كان مجالا للتعدد والتنوع وللتعارف… والحرب أيضا، أحيل هنا على المفكر الفرنسي لويس جان كالفي أستاذ اللسانيات الاجتماعية في جامعة “بروفانس”، الذي يذهب إلى أن العالم منذ ولادته كان متعدد اللغات والألسن، كان لسان أفعى، وعليه يبني أطروحته “حرب اللغات” المحفورة منذ فجر التاريخ البشري، باعتبارها حربا حقيقية، تكون باردة مرة، وساخنة مرات، وإدراك أن تعدد اللغات هو أصيل منذ بدء البشرية، وأنه ما من لغة أصلية واحدة، سيخففان من حدة هذه الحروب في اعتقاده. لكن هيهات !
يهمني الانتباه إلى بعض معاناة الصحافيين في التعامل مع اللغة لإيصال معلومات إلى أكبر فئة في المجتمع، أتكلم عن الصحافيين الذين يحملون الصحافة كهم وكقضية.
أولى هذه العقد، إذا كان اللسان هو عضو النطق، فإن اللغة التي يكتب بها الصحافيون ليست مما يدخل في حيز التداول اليومي، أي اللغة الفصحى التي تعلمها لا التي عاشها في حياته اليومية، في مجتمع أمي يوجد جمهور واسع خارج نطاق التداول السليم لما تنتجه الصحافة باللغة العربية الفصحى، وخارج ديمقراطية المعلومات والأخبار، فكيف السبيل إلى الوصول إلى أكبر فئات مجتمع تسود فيه الأمية وفوق هذا لا يقرأ؟ وكيف يحس الصحافي بذلك الصراع العميق في ذاته بين ما يقوله وما يفكر فيه وما يحسه وما يريد قوله وما يكتبه فعلا وما يُفهم من كتابته؟
أعتبر هذا من اللامفكر فيه بيننا لا كصحافيين ممارسين ولكن أيضا كخبراء في الشأن الإعلامي، لكن لنحاول أن نفهم لكي لا نموت بلداء على الأقل.
تفرض الصحافة البساطة والوضوح وتوصيل المعلومات إلى أكبر شريحة ممكنة، لأن الصحافة خدمة عمومية لا تحتكرها طبقة أو فئة أو نخبة، باعتبارها موجهة إلى كل المجموعة الوطنية، وإذا كانت أي مجموعة بشرية مختلفة النوازع والاهتمامات والمشارب واختلاف حظ المنتمين إليها، من الثقافة والتعليم، فإن للصحافة المغربية عوائق عديدة، أولها أمية المجتمع، ثانيها غياب تقاليد القراءة أو المشاهدة أو الزوار بالنسبة للرقمي، وعلى الصحافة التي تبحث عن موارد عيشها في ظل وضع اقتصادي هش، أن تصل إلى شرائح أوسع، هذا العائق يجعل الصحافي يبحث ببراغماتية عن أساليب الغواية ضمنها اختيار لغة خاصة داخل اللسان الواحد.
من هنا ثاني عقدة في لغة الصحافة، حيث نلاحظ وجود تجريب الانتقال داخل اللسان العربي بين الدارجة والفصحى في بعض التجارب الصحافية في المكتوب منها كما المرئي والرقمي، هذا الانتقال مشحون بالمواقف الإيديولوجية، وله مزالقه (فيما يمكن أن أسميه المعنى الضدي أو المقلوب في ذات اللسان بين الفصحى والدارجة في كلمات على سبيل التمثيل لا الحصر: البصير/ العافية/ الحار/ وَرَّى/ الباسل/ الروضة… التي لها معاني مختلفة في الحوضين اللسانيين الفصحى والدارجة التي تسعى أحيانا إلى الانتقام -باعتبارها عامية ولغة الرعاع- من الفصحى لغة النخبة والإدارة والإعلام، فيصبح البصير في الفصحى هو الذي لا يرى في العامية، وكذلك الروضة بين الحديقة الغناء والمقبرة رمز الموت، والتورية التي تعني الإخفاء في الفصحى والإبراز والظهور في الدارجة.. فاللغة مؤسسة حية لها مكرها الخاص، ولها حربها الداخلية.
ثالث عقدة لدى الصحافيين المغاربة أوجزها في السؤال كيف يمكن أن تكون محايداً – كأحد القواعد الأساسية للصحافة – أمام لغة غير محايدة، يسبق المعنى الجمعي دلالة الكلمات أحيانا: الشهيد بن بركة، الشيخ ياسين، الأحزاب الوطنية، الأحزاب الإدارية… فالتوصيفات المتداولة في الحقل السياسي سابقة على وجود الصحافي وأي اختيار لغوي ليس بريئا على مستوى لاوعي الكتابة واللغة المحملة بإسقاطات إيديولوجية مكثفة، “قل لي كيف تسمي الأشياء، أقول لك من أنت؟”، فلفظة شهيد معيقة على أي معلومة توخز الصورة، وهناك مقاومون كانت لهم قصص في النضال السياسي تاسطرت وهم فعلوا ذلك فقط بسبب قصص في الحب أو لأغراض جانبية لا علاقة لها بالبطولة الوطنية التي رسمت لهم في المخيال الجماعي، كيف نجد السبيل لكشفها كصحافيين دون أن نتهم بالتواطئ والعمالة، وحتى بعض رموز المخزن يصعب أن تكشف اليوم وجه منيرا إذا كان حقيقيا في سيرة أي خادم من خدامه، لأن لغة التوصيف أضحت حاجزا أمام الحقائق ذاتها ولو كانت مسنودة بوثائق تملك حجية كبرى.. فهذه توصيفات سابقة في الوجود على الصحافي ومكرسة من خلال عائق لغوي متوارث يقف حاجزا تجاه الحقيقة..
رابع العقد التي يعانيها الصحافيون، وقد صادفني بشكل كبير أثناء المحاكمات التي كنت أجد نفسي في قلبها، يتعلق الأمر بالاختلاف بين اللغة الصحافية واللغة القضائية، بين الاستعارة حتى في درجة الصفر في الإبداع وبين المعنى الحرفي للكلمة، كيف يصبح اللسان مُورّطا في التأويل وغير بريء في قاعة محكمة، إما بحكم غموض القانوني، أو اتساع نصه ومطاطيته، فاكتشفت أننا لا نختلف فقط في حقل إنتاج المعلومة وتوصيلها كأخبار للجمهور، بل نختلف حول من يمتلك حق سلطة تأويل ما نكتب وندون، واللسان هنا حمّال أوجه ولكل الوجه الذي يريد، في ظل نصوص قانونية تتسع أحيانا للشيء وضده. وإذا كان ديدن الصحافيين هو الدفاع عن حق القول واتساع صدر المسؤولين للتعبير حتى الأشد إيلاما منه مع فرض قرينة حسن النية، فإن حال السلطة دوما على قول ابن مسعود رضي الله عنه: “ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان”.
خامس العقد في الصحافة المغربية، هي حرب الألسن الخفية، بين الفرنسية والعربية، برغم كل ما حققته العربية من إنجازات في العقدين الأخيرين في المشهد الإعلامي بالمغرب، فإن الفرنسية لا زالت لسان المال والأعمال، ليس فقط لدى المتحكمين في دواليب الإشهار وعالم المال والسلطة أيضا، ولكن أيضا بين الصحافيين أنفسهم الفرنكفونيين الذين يبدون كما لو ولدوا وفي فمهم ملاعق من ذهب، و”العروبيين” (قصدتها مبنى ومعنى) الذين يعتبرون اليوم أكثر انتشارا لكنهم يظلون الأقل وزنا حتى يومنا هذا، فوضعية الصحافي الفرنكفوني من حيث الأجر أكثر ارتياحا من الصحافي “العروبي”، والموقع الاجتماعي للصحافي الفرنكفوني لا زال أقوى من مكانة الصحافي “العروبي”، زد على ذلك ارتباط العربية بالجسد الاجتماعي الأكثر عامية في المجتمع فيما الفرنكفونية تعتبر لغة الإدارات والنخب الأنيقة، هذا الأمر مرتبط حتى بلاوعي النخب التي تمثل الوجه الديمقراطي المستنير بالمغرب، حين كنت رئيس تحرير أسبوعية “الصحيفة” التي كانت تبيع ضعفي إلى ثلاثة أضعاف ما تبيعه شقيقتها “لوجورنال”، كان أحد أنبل الوجوه الصحافية الراحل خالد الجامعي يقول لي ببراءة: “تعرف أخي عزيز، لماذا نحن مؤثرون وفاعلون في المغرب، ببساطة، لأن لوجورنال تؤثر في رأس الدولة والصحيفة تؤثر في جسد الدولة”، هو ذا إذن اللسان الفرنسي هو الرأس مركز العقل، الفكر، القرار، التدبير، السلطان، النخبة… فيما اللسان العربي يمثل الجسد، موطن الغرائز، الرعاع، عامة الشعب، الذي يحتاجون لعقل يقودهم وينير طريق الدهماء.. لذلك كان لنا في ذات العمارة “إيمان سونطر” مصعدان، أحدهما سريع، وآخر بطيء ودوما معطل، أطلق عليه زملاؤنا في لوجورنال: “مصعد العربية”، إنه جرح اللسان أو حربه المستترة. فادعوا لي يحفظكم الله بالنجاة والأمان كي لا أستمر في نبشي، وأن أتوقف عن الكلام لأن ما من شيء أحوج إلى طول سجن من اللسان.