عشرات الملايين شتموا الحظ العاثر ليلة السبت الفائت، بعد أن كاد القناص الصغير في بينسالفانيا أن يقضي على أخطر رجل في العالم، لولا أن الرياح جرت بما لم تشتهي البندقية!
محاولة الإغتيال فشلت، لحسن الحظ، يردد الجميع في العلن، لسوء الحظ يتمتم معظمهم في السر.
طبعا، ليس من اللائق سياسيا ترديد ذلك، ولا شيء في الحقيقة يبرر الاغتيال، لأن “الروح عزيزة عند الله”، لكن الجميع يعرف أن اختفاء شخصية مخيفة مثل ترامب لا يمكن إلا أن ينشر الارتياح لدى الشعوب التي اكتوت بنيران سياساته، وبين كل من ترعبهم أفكاره العنصرية، وشخصية المتقلبة، القادرة على الأسوأ، التي يصعب التكهن بتصرفاتها…
يعلمنا التاريخ أن محاولات الإغتيال، نجحت أو فشلت، كما المحاولات الانقلابية، تكون لها عواقب وخيمة. آخر الامثلة على ذلك محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، منتصف يوليوز 2016، وكيف خرج منها أردوغان أقوى من أي وقت مضى، ليقود أكبر حملة تطهير ضد المعارضة، دون أن يستطيع أحد لجمه، لا في الداخل ولا في الخارج. أما في إسرائيل، فقد أدى اغتيال إسحاق رابين عام 1995 إلى دفن اتفاقات أوسلو معه، حيث دخلت البلاد مرحلة من التجاذبات السياسية، انتهت بهزيمة معسكر السلام، ووصول اليمين المتطرف الى الحكم، مما أسس للتراجيديا التي نعيشها اليوم. وفي المغرب، استُهدِفَ الحسن الثاني مرتين، مستهلّ السبعينيات، ونجا بأعجوبة، لتدخل البلاد مرحلة عصيبة سميت ب”سنوات الرصاص”، قادت فيها الدولة حملة شرسة ضد مناضلي اليسار، وشيدت تازمامارت وبقية إخوته من المعتقلات السرية الرهيبة…
لا شك أن محاولة الاغتيال التي تعرض لها ترامب، هدية من السماء، ستعطي زخما لحملته الانتخابية، وتعبّد له طريق العودة إلى البيت الأبيض، لأنها تمنحه ما كان ينقصه: صورة الضحية. سيتوارى إلى الخلف ذلك الرجل الأناني، المستعد لأن يبطش بالجميع، ولا يهمه أن يزعزع استقرار المؤسسات الديمقراطية، دفاعا عن مصالحه الشخصية، لتحل مكانها صورة السياسي المستهدف، الذي تحاك ضده المؤامرات، لكنه يتحدى الموت، ولا شيء يثنيه عن الوصول إلى هدفه.
نحن أمام لحظة مفصلية في السباق الرئاسي. من الصعب على الديمقراطيين أن يستعيدوا فيها زمام المبادرة. لقد انهزموا في حرب الصور: في الوقت الذي ظهر فيه ترامب عنيدا في مواجهة الرصاص، يدفع حراسه كي يتحدث مع مناصريه، ويرفع قبضته عاليا إلى السماء، رغم الدم الذي يسيل من أذنه… يبدو جو بايدن عجوزا، بطيء الحركة، حائرا مع أسماء الرؤساء والاشخاص والدول. تارة يخلط بين بوتين وزيلينكسي وأخرى بين كامالا هاريس نائبته ودونالد ترامب منافسه، ومع ذلك يصر على البقاء في السباق، رغم دعوات التنحي التي تتقاطر في المعسكر الديمقراطي. “الله يخرجنا من دار العيب بلا عيب”.
عندما يشيخ الإنسان، من الطبيعي أن يفقد صفاء الذهن وسرعة البديهة، وتختلط عليه الأسماء والأحداث والازمنة، والأفظع ألا ينتبه الى زلاته وهفواته. الشيخوخة سنة الحياة، لذلك اخترع الإنسان الحديث “التقاعد”. حيث يتوقف الشخص في مرحلة من عمره عن أي نشاط، ويجلس في بيته مع من يحبهم ومن يعتنون به، أو في مأوى خاص بمن هم في سنّه، يمارس أنشطة تتناسب مع عمره وقدراته الجسمية والعقلية. المشكلة أن السياسة مخدر قوي، يصعب التخلي عنه. لذلك يكره السياسي التقاعد، يعتقد أنه لا يشيخ، ويظل متمسكا بمنصبه، إلا في استثناءات قليلة. مثل حالة الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو، الذي انسحب من الباب الكبير، عندما أدرك أن العمر فعل فعلته. ترك الحكم لأخيه راوول، ليقضي حياة هادئة مع أهله، كريما عزيزا، إلى أن وافته المنية. فيديل أحس بالنهاية وانسحب بسلاسة، لكن ليس العالم كله كاسترو. في تونس، ظل الحبيب بورقيبة متشبثا بكرسيه رغم الشيخوخة والخرف، إلى أن أزاحه بنعلي في انقلاب أبيض، عام 1987، قبل أن تدور عليه هو نفسه الدوائر. عبد العزيز بوتفليقة أيضا كان من أذكى رجال السياسة في الجزائر، مساره حافل بالإنجازات التي تنم عن دهاء كبير، لكنه انتهى على كرسي متحرك، لا يتكلم. وبدل أن يتنحى، وينهي حياته معززا مكرما، تشبث بالمنصب حتى النهاية. ظلت صورته تحكم فيما هو يصارع الغيبوبة والمرض، قبل أن يتمرد الجزائريون على الصورة ومن يستغلونها أبشع استغلال…
عام 1940 عندما اخترقت القوات الالمانية خط ماجينو، استنجد الفرنسيون بأحد أبطال الحرب العالمية الاولى. كان عمره أربعة وثمانون عاما، واسمه فيليب بيتان. عسكري مرموق، تألق في معركة فيردان، وفي حرب الريف ضد عبد الكريم الخطابي، عام 1925، حيث أشرف شخصيا على القوات الفرنسية التي جاءت لتساند الجيش الاسباني كي تقضي على ثورة الأمير المجيدة. ويبدو أن لعنة الريف أصابت الماريشال. بمجرد ما استلم قيادة البلاد في ماي 1940، حلّ البرلمان، ووقع معاهدة مذلة مع هتلر، سمحت للألمان أن يبسطوا نفوذهم على فرنسا. لحسن حظ الجمهورية، أن ضابطا شابا كان عضوا في الحكومة، رفض معاهدة الاستسلام، وأعلن الثورة على بيتان وألمانيا النازية، من لندن، وبذلك ولدت “فرنسا الحرة” التي ساهمت في دحر “الرايخ الثالث”، من خلال المقاومة المسلحة التي اندلعت في مختلف أنحاء الجمهورية، بدعم من الحلفاء طبعا. الضابط كان اسمه شارل دوغول، وقد استلم قيادة فرنسا بعد التحرير. أما بيتان فكان مصيره حكم بالاعدام، وقد شارف عمره على القرن، ليموت في السجن مذلولا، ويذهب إلى مزبلة التاريخ. في مذكراته، عندما تحدث الجنرال شارل دوغول عن الماريشال بيتان، استعمل عبارة شهيرة تلخص اللعنة التي تطال الانسان في نهاية العمر: “الشيخوخة حالة غرق”…
نعم، الشيخوخة حالة غرق. ولا شكّ أن بايدن سيغرق كلّ الديمقراطيين معه!
“الشيخوخة حالة غرق!”
بواسطة جمال بودومة