لا يوجد مغربي واحد ليس له “رأسان”، “واحد كيقولو حاجة ولاخر كيقولو العكس ديالها”. يكاد يكون “انفصام الشخصية” مكونا من مكونات “الهوية المغربية”، نحرص عليه كما نحرص على الزليج والقفطان والبلغة والبسطيلة والطجين، وبقية “التويشيات” التي تصنع ما نسيمه ب “تمغربيت”. المثير في القضية أن لا أحد في بلادنا ينكر أنه بأكثر من رأس، ولا أحد يقبل بأن يتخلى عن أي رأس من رؤوسه. كأنها رؤوس نووية. لا أعرف كيف نشأ هذا التعبير واستقر في دارجتنا، لكنه يلخص بشكل بليغ شخصية المغربي: “واحد الراس كيقولي سير واحد الراس كيقولي گلس، واحد الراس كيقولي نعس واحد الراس كيقولي فيق، واحد الراس كيقولي الغرب وواحد الراس كيقولي الشرق”… وبين الشرق والغرب مازال المغرب تائها، لا يعرف أي اتجاه يأخذ، كما يوضح الجدل المتجدد حول تعديل مدونة الأسرة، نسخة 2024. “راس كيقول عدل وراس كيقول ما تعدلش”. البلاد بكاملها مصابة بالانفصام، و”الحاجة اللي ما تشبه لمولاها حرام”.
ما أشبه اليوم بالبارحة. كأننا مازلنا في 2000، حين خرجت مسيرة ل”المحافظين” في الدار البيضاء واخرى ل”الحداثيين” في الرباط. انتهت المعركة وقتها بسحب ما سمي ب”الخطة الوطنية لإدماج المراة في التنمية”، التي شكلت مشروعا متقدما على طريق المساواة بين الجنسين، ومنح المرأة حقوقها، لكن المعسكر المناهض ضغط في الشارع والمساجد والجرائد، وانتهى بأن اسقط “الخطة” ومدبرها، سعيد السعدي، كبش الفداء الذي أُخرج من حكومة عيد الرحمان اليوسفي، رغم أن اللجنة التي شكلها الملك برئاسة الراحل امحمد بوستة، استعادت 70% من مشروعه. السعدي كان يمثل حزب “التقدم والاشتراكية” في حكومة اليوسفي، وكان الاسلاميون ينعتونه بالوزير “الشيوعي”، كي يحرضوا عليه الغوغاء، “وبقاو تابعينو حتى خرج فيه البلان”…
اليوم نشهد النقاش نفسه والاستقطاب نفسه واستعراض القوة نفسه، مع التكفير والتشهير والتهديد والوعيد…. جيلان كاملان مرا، والجدل لم يتغير. “شي كيشرق وشي كيغرب”، بكل ما تعينه العبارة. مَن “يُشرِّقون” يصادرون النقاش باسم الثوابت الاسلامية، ومن “يُغرِّيون” يريدون مدونة تخضع كليا للقانون الغربي. “المحافظون” يتحججون بالاسلام وثوابته التي لا تقبل التغيير، و “الحداثيون” يعتبرون الوقت حان كي ندخل العصر من أبوابه الواسعة، ونضع قوانين تساير التطور الذي حصل في المجتمع. ومن الصعب رأب الصدع بين الفريقين، رغم أنهما يتعايشان في الواقع دون مشكلة، كما تتعايش عدة رؤوس في الشخص الواحد. لحسن الحظ أن هناك التحكيم الملكي، الذي سيحسم المعركة وينهي الجدل، كما فعل قبل عشرين عاما.
ولا شك أن الهوة الشاسعة بين الواقع والقوانين هو ما يكرس انفصام الشخصية المغربية: الخمر في القانون حرام ولا يباع لغير المسلمين، لكنه في الواقع لا يباع إلا للمسلمين بالبارات والمطاعم والبيسريات، في وضح النهار، ولدى “الگراب” في جنح الليل. كما أن القانون يمنع العلاقات خارج الزواج، لكن الجميع يمارسها، والمجتمع يقبلها والسلطة تغض الطرف. وفي الوقت الذي يصر البعض على الاعتصام في الماضي وقوانينه العتيقة، يمشي المجتمع بخطى سريعة نحو جهات لم تخطر على بال الشيطان. يكفي أن تتجول عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كي تكتشف الهوة بين الواقع والقوانين، وتعرف أن كثيرا من القيم تبدلت، دون أن ننتبه.
وتلك سنة الحياة. حكى لي الصديق المبدع أحمد المرزوقي أنه أيامًا بعد مغادرة “تازمامارت” في بداية التسعينيات، شاهد لأول مرة تلفزيونا ملونا مع العائلة، وكانت هناك سهرة تبثها القناة الاولى، لفنانة لبنانية ترتدي “ديكولتي”، بمجرد ما شاهدها نزل تحت الطاولة، كأنه يفتش عن شيء ضيعه، في انتظار أن يقوم أحد بإطفاء “المشقوف”، درءا للحرج، لكنه حين رفع رأسه فوجئ أن صاحبة “الديكولتي” مازالت تتمختر على الشاشة الصغيرة، ولا أحد منزعج على الاطلاق، بمن فيهم أشخاص من عمر محترم، حينها أدرك أن أشياء كثيرة تغيرت أثناء غيابه القسري الطويل. القيم تتحرك والعقليات تتغير. قيم السبعينيات ليست هي قيم التسعينيات، وعقلية البارحة ليست عقلية اليوم.
مؤخرا، صُعِق كثيرون وهم يشاهدون على وسائل التواصل الاجتماعي، شبابا يقلدون برنامجا أميركيًا شهيرا اسمه “المواعدة العمياء”، حيث فتاة بثياب خفيفة تختار شريكها من بين فتية يقفون وراء ستار، اعتمادا على هندامهم وعلى كلبها…. المشاركون يمزجون الدارجة مع انجليزية “نقية”، ويقفزون على كل الخطوط الحمراء، لدرجة أن القضاء دخل على الخط وقرر ملاحقتهم بتهمة “المساس بالأخلاق العامة والتحريض على الإخلال العلني بالحياء بواسطة الأنظمة المعلوماتية”. القضاء الرسمي أفضل من القضاء الشعبي. النسخة المغربية من “المواعدة العمياء” تكشف عن “الانفصام” الذي يعيشه المجتمع، وعن تبدل جذري في القيم، مع جيل جديد، “لا تحتمل خفته”، أكثر انفتاحا على العالم بسبب الطفرة التواصلية وتخليه عن الفرنسية لصالح الإنجليزية، وإفلاس مؤسسات التنشئة التقليدية، من الأسرة إلى المدرسة. ولعل أكثر ما يثير في هذه المغامرة العمياء، ان الشباب يتصرفون بمنتهى البراءة، مقتنعين أن ما يقومون به شيء عادي جدا، لا يسيئون إلى أحد، وأن ما يحدث في الولايات المتحدة الامريكية أو بريطانيا يمكن أن نفعله في المغرب أيضا، دون مشكلة!
ومن أطرف التعليقات التي قرأت عن القضية، ما قاله أحد المصعوقين: “ردوا لينا عافاكم هادوك اللي كانو كيهدرو بالفرانساوية!”
في الوقت الذي تدور فيه معركة “المواعدة العمياء” على وسائل التواصل الاجتماعي وبين ردهات المحاكم، تبدو تيزنيت مشغولة بمعركة أخرى ضد “المسكة”. المديرية الاقليمية لوزارة التربية الوطنية، عممت مذكرة على مدراء المؤسسات التعليمية تمنع تعاطي “شوينغوم” في المدرسة، لأنه “ينطوي على أبعاد غير تربوية في الثقافة المحلية”.
واضح أن سكان الجنوب محافظون، لأن مدارسهم تتحارب مع “المسكة”، في الوقت الذي تتحارب فيه مدارس مدن أخرى مع المعجون والحشيش والقربوبي والكوكاكيين… “بقات فالمسكة!”
معركة تيزنيت تذكرنا بالزمن الجميل. أيام كان مشكل المعلمين الوحيد مع التلميذات يتمثل في الثنائي الخطير: “المسكة” و”الحنة”. الفتيات إما يطرطقن “المسكة” داخل الفصل أو يأتين إليه والحنة في شعرهن، على اساس ان يذهبن في اليوم الموالي الى الحمام للتخلص من الطلاء. ولك ان تتصور الرائحة والمنظر.
اللافت أيضا أن نظرتنا إلى “المسكة” لم تتغير رغم مرور ثمانين سنة على دخولها إلى المغرب. مثل “المواعدة العمياء”، جاءتنا “شوينغوم” من بلاد العم سام عام 1945، مع الجنود الامريكيين الذين وفدوا الى بلادنا استعدادا لإنزال النورماندي، كي يحرروا أوربا من أيدي النازية، كما أرّخ لذلك الحسينْ السلاوي في أغنيته الشهيرة “الماريكان”، التي تحكي كيف تعلقت النسوة بأصحاب “العيون الزرقاء” الذين نشروا قيما دخيلة على مجتمعنا، أبرز مظاهرها “شوينغوم وفنيد فليو والبومبوم، وكمان باي باي وكؤوس “الروم”، وأنه بسبب الأمريكيين، خرجت النساء عن طوع رجالهن…
ونختم بمقطع من أغنيته الجميلة:
“دخلت الماريكان الناس تقوات والنسا علينا جارو
المجوجات دارو السباب على رجالاتهم غابو
أشحال من هي معشوقة دارو ليها الشان
الماريكان
ما تسمع غير أوكي أوكي هذا ما كان
الزين والعــين الزرقــــة جانا بكل خـــــير
اليوم يمشــــوا بالفرقــة بناتنا بخـــــــير
أشحال من هي معشوقـــة داروا لها الشــــــان
الماريكان
ما تسمع غير “أوكي، أوكـــي” هذا ما كـــــــان/
من “شوينغوم” إلى المواعدة العمياء”!
بواسطة جمال بودومة