من الواضح أن المغرب عانى في الأسابيع الأخيرة، من بعض الانتكاسات الدبلوماسية، وهذا طبعا لا يرجع فقط الى “أموال البترول” التي أنفقها النظام الجزائري بسخاء، على جماعات الضغط. بل يرجع أيضا الى التراخي الذي أصاب الآلة الدبلوماسية المغربية، عقب الاعتراف الاسباني بجدية المقترح المغربي، القاضي بمنح حكم ذاتي للصحراء، وقبله الإعتراف الأمريكي، وما تلاه من اتفاقيات ومذكرات تفاهم موسعة مع اسرائيل.
صحيح أن المغرب لا يملك وسائل ضغط، مثل تلك التي يملكها النظام الجزائري، الذي إستغل أزمة الطاقة العالمية، للعب ورقة الغاز والبترول، من أجل جني مكاسب دبلوماسية لصالح الطرح الانفصالي، لكن هذا ليس مبرراً، لكي يضع المغرب بيضه بالكامل في سلة الاعتماد على “المحور الاسرائيلي – الأمريكي”، للدفاع عن عدالة قضيته.
الواقع أنه منذ تعيين ناصر بوريطة وزيرا لخارجية المغرب عام 2017، تدهورت العلاقات مع العديد من الدول بشكل واضح.
في مارس 2021، ساءت العلاقات مع ألمانيا قبل أن يتم تدارك ذلك. وفي ماي 2021، سحبت الرباط سفيرتها من إسبانيا. واندلعت أزمة مع فرنسا بسبب مزاعم “البيغاسوس” والفشل في تدبير ملف “استعادة المهاجرين غير النظاميين”، مما تسبب في توترات لا زالت تداعياتها مستمرة الى حدود الساعة.
ينضاف الى ذلك، فشل آخر على مستوى الاتحاد الأوروبي، بتبني محكمة العدل الأوروبية، في سبتمبر 2021، قرارًا بإلغاء اتفاق الزراعة والصيد البحري مع المغرب؛ بناء على طعن تقدمت به جبهة البوليساريو الانفصالية.
وخلال شهر فبراير الجاري، تلقت الدبلوماسية المغربية ضربتين، الأولى بعد زيارة المبعوث الشخصي لدى الأمين العام للأمم المتحدة إلى الصحراء، ستيفان دي ميستورا، الى جنوب إفريقيا، – رغم محاولات بوريطة التقليل من أثرها – ، والثانية مشاركة وفد من بوليساريو في معرض “صفاقس الدولي للصناعة التقليدية” بتونس، الذي انعقد خلال الفترة من 31 يناير إلى 4 فبراير 2024.
مشاركة جاءت لتنضاف الى “الاستقبال الرسمي الذي سبق وخصصه الرئيس التونسي قيس سعيّد لزعيم جبهة بوليساريو “ابراهيم غالي”. وهي ضربة قاسية، بالنظر الى ما تشكله تونس من “ثقل رمزي”، وأي تغيّر في موقفها “التقليدي بالحياد” لصالح الطرح الانفصالي، يعني بشكل مباشر ميل “الكفة المغاربية” لصالح بوليساريو وحاضنتها الجزائر.
ضربات واخفاقات، سبقتها صيف 2023 تصريحات المفوض الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي شدد في مقابلة مع القناة الاسبانية TVE على ضرورة “التشاور مع الصحراويين” في أي حل للنزاع. موقف خطير، لا يمكن النظر اليه فقط “كزلة لسان عابرة”، وإن كانت “زلات اللسان” مثلما يقول “سجموند فرويد ” هي “المرآة التي تكشف الأفكار والدوافع والأمنيات الدفينة في اللاوعي”.
على الجانب الآخر، تبدو سياسة فتح القنصليات في الداخلة والعيون، وحصد الاعترافات الدولية، سيفاً ذو حدين، ذلك أن القاعدة الشهيرة في العلاقات الدولية تقول : “لا عداء دائم ولا صداقة دائمة بين الدول، بل هناك مصلحة دائمة”. وهذا يعني أن العالم عبارة عن سلسلة من الصفقات التي يجب التفاوض بشأنها باستمرار “عوض الاطمئنان لها”، والأمر متروك للجميع لتحقيق أقصى استفادة منها.
وبناء على ذلك، فإن إمكانية تراجع هاته الدول عن اعترافاتها وإغلاق قنصلياتها في الداخلة والعيون، يبقى وارداً في كل وقت وحين، تبعاً لتغيّر موازين القوى والمصالح. فيما سيشكل ذلك إن حصل –وهذا ما لا نتمناه طبعا – ضربة قوية، ستخلف ارتدادات قوية، لا تقل حجما عن تلك التي واكبت إفتتاحها.
وكما يقول الفيلسوف الألماني “هانز مورغنثو” : “إن النظام الدولي هو حالة حرب الكل ضد الجميع، ساحة تتعارض فيها مصالح الدول، كل يريد البقاء على قيد الحياة لزيادة قوته على حساب الآخرين”.
في ضوء ذلك يبدو الاستمرار في التصفيق والتطبيل للانتصارات الدبلوماسية بشكل “شوفيني” مفتقراً الى الموضوعية، وأشبه بـ “مَن يُطعم آخراً بملعقة فارغة”، فضلا عن إعطائه إحساسا وهمياً بكسب “الحرب برمتها”، لا مجرد تحقيق انتصار في معركة أو أكثر.
هكذا، لن يكون من باب التشاؤم أو العدمية، القول بأن الوضع الدبلوماسي المغربي ليس على ما يرام، وأنه لم يعد من مصلحة المغرب التورط في مزيد من الصراعات الإقليمية، لا سيما بعد نزول المحور الجزائري – الإيراني – الجنوب إفريقي بكل ثقله، لعزل المملكة. وهو ما بدا واضحا من خلال محاولاته الحثيثة، لاستمالة واستقطاب الدول التي فتحت قنصليات في الصحراء المغربية.
والأكيد أن الجميع شاهد الاستقبال الذي خصصه الرئيس عبدالمجيد تبون شهر غشت 2023 لرئيس غينيا الاستوائية في قصر المرادية، وقبله تخصيصه لـ “طائرة جزائرية” لنقل الرئيس “البوروندي” للمشاركة في ملتقى “تيكاد8” في تونس. وجميعها دول إفريقية داعمة للطرح المغربي.
تبعا لذلك، وبالنظر إلى التغيرات المتسارعة التي تحدث في العالم، هناك حاجة ملحة اليوم، لاعتماد “المغرب” نهجا أكثر استباقية لدبلوماسيته وسياسته الخارجية، لاسيما من خلال تنمية “علاقات ثنائية” أعمق مع القوى الناشئة مثل الهند والصين على وجه الخصوص، وكذلك مع الدول الأخرى متوسطة الحجم التي من المحتمل أن تكون ذات أهمية اقتصادية ومؤسسية وجيوسياسية، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا والبرازيل وجنوب إفريقيا وتركيا ودول الخليج الرئيسية.