كل من تابع الندوة الصحفية التي عقدها أحمد الحليمي، المندوب السامي للتخطيط، عشية انطلاقة الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024، سيلاحظ بأن الرجل لم يعد يقوى على ممارسة مهامه، بل حتى على ارتداء قبعة الإحصاء التي صنعها نور الدين عيوش بصفقة المليار و600 مليون سنتيم.
أحمد لحليمي، الذي لا نتمنى له إلا الشفاء العاجل وأن ينعم بقسط من الراحة بعيدا عن صداع رأس المسؤوليات ومحاسبة الرأي العام حتى وإن لم نشكك في نزاهة مساره، بدا خلال هذه الندوة الصحفية شاردا وهو يجيب عن بعض أسئلة الصحافيين، أو يبعث برسالة هنا وهناك إلى من يهمه الأمر.. فتارة يذكر الحضور بمساره النضالي لمدة ستة عقود ونظافة يده من “الحرام”.. وتارة يتهم رؤساء الحكومات السابقين بالتوجه إلى الملك لطلب إعفائه من منصبه.. لكنه لازال صامدا أمام هذه المحاولات.
لحليمي الذي ازداد سنة 1939، وتجاوز اليوم سن الـ85، عاش ما يمكن أن يعيشه أي مناضل حالم.. فقد كان قريبا من مراكز صناعة القرار وشغل ما تيسر من المناصب الإدارية والحكومية، حتى إنه وصف بمهندس حكومة التناوب. فالرجل بصم على مسار سياسي في المعارضة، ولعب دورا حاسما في إخراج حكومة التناوب التوافقي، قبل أن يبتعد عن الحزب وينال منصب مندوب سام برتبة وزير، بعد انتخابات 2002 التي عُين على إثرها ادريس جطو وزيرا أولا..
من يعرفون خبايا تشكيل حكومة اليوسفي، سيتذكرون جيدا الدور الحاسم الذي لعبه الحليمي في تشكيلها، وكيف أن عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله بمجرد مغادرته القصر الملكي، توجه مباشرة إلى منزل رفيقه لعقد خلوة سياسية لتشكيل الحكومة التي استمرت المفاوضات حولها 40 يوما.
لم يكن الحليمي آنذاك مجرد مهندس تنتهي مهمته بتشكيل الحكومة، بل إن الرجل نال حقيبة وزارية تبدو عادية من حيث الظاهر (وزير الشؤون العامة للحكومة والاقتصاد الاجتماعي والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والحرف اليدوية)، لكن وضعه داخل هذه الحكومة كان نافذا وحاسما، ربما لأنه ساهم بقوة في جمع الفريق الذي قاده اليوسفي، واتهم من طرف البعض بكونه السبب وراء إبعادهم عن تشكيلتها.
ظل الرجل في هذا المنصب حتى منعطف انتخابات 2002 التي انبثقت عنها حكومة ادريس جطو.. ففي هذه اللحظة، وضع لحليمي نقطة نهاية لـ”النضال الحزبي”، ليدخل مجالا جديدا منحه عباءة التكنوقراطي، أو على الأقل “مناضلا” من داخل بنية الدولة.. ليتحول من وزير سياسي إلى تكنوقراطي أشبه بمراقب للأخطاء الاقتصادية والاجتماعية للحكومات..
طيلة السنوات الماضية، لم تكن علاقة المندوبية السامية للتخطيط مع الحكومات المتعاقبة سمنا على عسل.. بل إن الخلاف وصل مستويات غير مسبوقة، حتى إن محمد بوليف، وزير الشؤون العامة والحكامة في حكومة عبد الإله بنكيران، خطط لإغلاق الباب الذي يأتي منه ريح المندوبية، وطرح مخططا لإقبارها وتحويلها إلى مجرد مديرية للإحصاء.. لكنه فشل في ذلك.
في مختلف الحكومات، ظل الجدل كبيرا حول أرقام المندوبية لاسيما في مجال التشغيل.. ولم تكن اللمسة السياسية غائبة عن عدد من التقارير. فالمندوبية لا تصدر أرقاما جافة، بل إن قراءتها تحيل على نوع من التحليل السياسي للظرفية باستعمال الأرقام.. فعندنا نتحدث عن ثقة الأسر فالأمر يتجاوز التحليل الإحصائي.
ورغم الاصطدامات المتكررة، حتى مع بعض الوزراء المقربين من دوائر صناعة القرار، فإن الرجل استمر في منصبه.. بل إن الحليمي اصطدم حتى مع وزارة الداخلية في عهد محمد حصاد عندما وقع خلاف مع الوزير حول تقديم نتائج الإحصاء.. لكن المندوبية قدمتها على طريقتها، حتى وإن نال وزير الداخلية آنذاك دعم رئيسه عبد الإله بنكيران في هذا المواجهة، وفق ما أدلى به لحليمي الذي علق على هذه الواقعة بالقول: “درت داكشي للي بغيت”.
في شهر أكتوبر المقبل، سيكون أحمد الحليمي قد قضى 21 سنة على رأس المندوبية السامية للتخطيط التي عين فيها من طرف الملك محمد السادس ذات أكتوبر 2003.. خلال هذه المدة أشرف الرجل على تنظيم 3 إحصاءات منذ 2004، وأصدر المئات من التقارير المثيرة للجدل، واصطدم مع عدد رؤساء الحكومات الذين حاول جميعهم إسقاطه، باستثناء عباس الفاسي وفق تعبيره.. لكنه ظل صامدا في منصبه، رافضا أي تدخل في عمل مؤسسته التي يقول إنها تحافظ على استقلاليتها عن كل الحكومات والتوجهات السياسية أو الحزبية.
الحليمي.. من سياسي معارض إلى تكنوقراطي ينتظر إشارة نهاية الخدمة
بواسطة كمال الهبريشي