أزعم بادئ ذي بدء أن المنهج، في نظري، بشكل عام، هو سلسلة من الخطوات والاختبارات والقواعد النظرية والتجريبية المنظمة التي يجب اعتمادها في فحص المعلومات والمعطيات والقيم والسلوكات والمهارات عبر انتقاء جيد لأشكال الاختبار وبناء سلس للفرضيات. فنكون في حاجة إلى المنهج الوصفي، أو المنهج التجريبي، أو المنهج التاريخي. وقد يحتاج الأمر إلى اعتماد البنيوية أو التفكيكية أو غيرهما من أجل تعقب بصمات وأثر المعنى لترتيب الفهم وتركيز الاستيعاب وتعميق الإدراك.
في حين يبقى الإنشاء مرتبطا بالإبداع اللغوي في إطار رونق الوصف ضمن روعة الأسلوب ودقة بناء الألفاظ وتماسك الجمل والفقرات، ذلك عبر استعمال جماليات اللغة والمحسنات البديعية في النص لجعله أكثر نظما وأعمق جمالا. بيد أن فن الإنشاء يبقَ منحصرا في تملك معاني الجمال اللغوي على رجحان سلاسة الأدب، دون أن يرقى حينا نحو مدارك التحليل الرصين في مجالات معرفية متشعبة مثل السوسيولوجيا والبوليتولوجيا (علم السياسة) والأنثروبولوجيا، من خلال حسن امتلاك ناصية المناهج كمدخل نظري لبلوغ صناعة المضمون؛ وهذا مناط المثقف المنهجي بمحددات دقيقة. فلا يحق لأحد نفي أهمية اللغة في بناء الخطاب، لكن دون نفي أهمية المناهج في صياغة التحليل الذي يتناول التيمات والأسئلة في مختلف المجالات والأصعدة.
إن دواعي هذا النص، وفق ما يسمى في علم القرآن بـ”أسباب النزول”، هو ملاحظة دقيقة ذات صلة بمنحى القول لدى الكثير من المتكلمين عبر بناء إنشاءات شفهية كأنك أمام “حلقيات جامع الفنا” أو ” كلام المقاهي أو “كلام الحمامات” أو “نقاش الرصيف” أو “حديث الليل” بما يسيء لخطاب المثقف الذي غالبا ما يتهاوى الى حضيض الكلام، وفق حاجة السوق الثقافية أو السياسية التي تفرض كثيرا من الشعبوية في إنتاج القول لا في صناعة المعنى.
وإن الأسباب التي حفزتني في عمليات ولادة هذا المقال تجد شرعيتها في سؤال عدم القدرة على التمييز بين التعليق (الذي هو هواية الأغلبية) وهي تعاليق تظل في حدود استنطاق اللغة والمؤشرات، وبين التحليل كعلم ومعرفة قائمين على دراية دقيقة بالمناهج من حيث ضبط الخلفية النظرية وقياس وتملك الجهاز المفاهيمي لتفكيك الظواهر والوقائع لاستجلاء الخفي من عناصرها في سبيل توقع للوضعيات؛ وكل ذلك ضمن امعان النظر في العلاقات والتفاعلات والتأثيرات والامتدادات.
فالتحليل يبدأ بشتى تلاوين المطارحة سواء في التاريخ من خلال استيعاب سياق الكلام، والمسح الاجتماعي عبر من المستفيد ومن المتضرر من الوضعية (بغض النظر عن ماهية النازلة والمعاهدة … موضوع فكرة التحليل)، ودراسة الحالة بواسطة الانتقال من العام إلى الخاص ومن الخاص إلى العام، وتحليل المضمون بتعقب الكلمات والمصطلحات والمفاهيم والفرضيات والدفوع في الشكل والموضوع، وتسليط الضوء على النهج الكمي والكيفي من الملاحظة نحو وضع الفرضيات وتحديد الحجج أو الدفوع ثم صياغة الخطاب من عرض وخاتمة.
فالتحليل يتدرج “ب” أو “من” عرض أسئلة بسيطة كمسلمات واضحة أولا ثم بسط تساؤلات مركبة ثانيا، ووضع فرضيات الفهم، ثم صياغة عمليات التفكيك في العلاقة بين الجزء والكل نحو إعادة البناء والتركيب ضمن ما سماه هيغل ب ” الأطروحة ونقيضها والتركيب ” وفق جدلية السبب والنتيجة من أجل استيعاب الفعل ونتائجه. فهو، أي التحليل، يرقى من مجرد الوصف المادي السطحي للواقعة، للفعل، النازلة، للقرار، للمعاهدة أو الاتفاقية، إلى الغوص في عمقها بأدوات التحليل التي تنال من الموضوع في عموميته دون تجزيئ وبلا تعويم بل بتركيز وتدقيق.
وهكذا فمسطرة التحليل تمر من مراحل دقيقة في الفهم، ترفض الانتقائية أو التطبيع مع الأحكام الجاهزة، بل يستدعي المثول أمام خطوات المنهج المعتمد؛ المنهج التاريخي، المنهج البنيوي، المنهج النفسي، المنهج التفكيكي .. في التعاطي مع مواضيع البحث والدراسة لدى صنف من الباحثين الذين يأخذون الكلام على عواهنه دون سُلم منهجي واضح بما يترك الكلام بعيد جدا عن بناء خطاب مؤسس منهجيا لصالح ترسيخ الانطباعات العامة الكمية، وليس الكيفية، وكل ذلك مناط العسر في صياغة أجوبة شافية لمعضلات معينة مطروحة بعلة الافتقار إلى المنهج.
فالباحثون في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وحتى التجريبية، يؤسسون لتحليلاتهم، رغم اختلاف المداخل، من خلال مناهج الانتماء وبالتالي مدارس الفكر، ذلك سواء كان سؤالا أو أسئلة متراصة نظرية أو تجريبية، وهم يحاولون أجرأتها في إطار ممارسات تطبيقية عملية قائمة على دقة الروابط بين النظرية والتجربة، بين الفهم والتحليل داخل قواعد التمرين المنهجي. إن التحليل، بالنسبة لي، عمليات مركبة تجمع بين الفهم والاستيعاب، ثم التعليق نحو التحليل، ثم التأويل نحو التوقع والتنبؤ.
فممارسة الأركيولوجيا أي علم الحفريات في تفكيك أو تحليل سؤال ما داخل اشكالية عامة يقتضي البدء من الملاحظة النظرية كرصد أولي، وبعده تبدأ عمليات ممارسة خطوات التجربة العلمية عبر التفسير أولا والتعميم ثانيا، ورغم أن كل الخطوات محكومة بمبدأ السياق، أي زمن النازلة أو الظاهرة، بعد اتحاد توفيقي بانطلاق عملية تجريبها؛ فإنها في جوهرها وعمقها عملية مستمرة من خلال ربط الموضوع بالفكرة في إطار الوعي النسقي التراكمي المؤسس على خطوات عملية دقيقة قبل بلوغ المعنى وتشييده.
وبناء على ما سلف حري عرض تساؤلات مرتبطة بمدى جواز بناء التحليل، بالأحرى الكلام، دون سند منهجي في خضم ممارسة اخضاع الأسئلة لخطوات التحليل وفق محددات منهجية واضحة، ثم الانتقال إلى أسئلة أخرى أكثر عمقا وتركيبا، أو تفريع السؤال المركزي إلى أسئلة صغرى متشعبة في المرحلة التمهيدية، نحو تساؤلات كبرى تبرز قدرة الباحث والمحلل في خلخلة هدوء المسلمات نحو بناء استراتيجية تحليلية تدحض كل الفرضيات المعادية القناعة الحاصلة وعبر دفوع فكرية – نقدية، أي إبيستيمولوجية رصينة.
وهذا أزعم أنه مربط الاختلاف بين المدارس الغربية التي تلتزم بسؤال أو أسئلة الانطلاقة لأنها تجعل الفكرة تبقى دائما لصيقة ومتحدة مع الموضوع ومستمرة معه ولازمة لا تنفصل ولا تنفصم عنه، وبين محللين هنا ينطقون الكلام دون أي سند منهجي. وإن الذي يجب أن يتم هو إدراج السؤال المؤطر للمشكلة في سياق من التصورات من البناء والتفكيك والتركيب التي مصدرها ومنبعها مرتبط بالموضوع وبوعي يؤسس للبحث عن المعنى باستمرار داخل توليفات مناسبة لا داخل بوليمك عقيم يحترق في نار فوضى القول دون ترك ال الأثر المعرفي الرصين. ولهذا يقال أن وضع المشكلة يؤذن بالحل عبر ضبط دقيق لما يسميه علماء الأصول ب ” مورد النزاع ” أي مناط الإشكالية وماهية السؤال الذي يولد منها. لذا يبدو أن منعدمي التمكن والتأصيل المنهجيين لا يدركون معنى الحل بلا خلفية منهجية، فيلجؤون الى خلق أسئلة أخرى وأسئلة متفرعة في إطار ما أسميه بالتيه المنهجي. لأن الأسئلة المستحدثة عبر سؤال أو أسئلة الانطلاقة في ممارسة اشكالية التحليل تتطلب لزوما إخضاعها للافتحاص المنهجي.
وفي الختام أعتبر أن بناء اي براديغم معرفي يقتضي بالضرورة استحضار المنطلقات المنهجية والغايات المعرفية عبر المرور في جسور المنهج عبر مقاربات الفهم أولا والتعليق ثانيا والتحليل ثالثا والتأويل رابعا والتفكيك خامسا نحو دحض المعنى المشوه نحو بناء معنى جديد سليم بشرط المنهج المؤسس.
*محامي بمكناس
خبير في القانون الدولي قضايا الهجرة ونزاع الصحراء.
الرئيس العام لأكاديمية التفكير الاستراتيجي درعة تافيلالت.