كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
خاتمة لموضوع أريد له ألا ينتهي
لم تولد الديمقراطية كمنهج للتداول والتنظيم الاجتماعي والسياسي سوى من أجل استيعاب التعدد والتنوع، وتدبير الاختلاف والانتقال من سلط القرابة والدم إلى سلطة العقل.. لكن ما يتفجر اليوم في أكثر من بقعة، مع صعود اليمين المتطرف أو تحوله إلى قوة مؤثرة، حتى وإن لم يحز الانتصار في الاستحقاقات الانتخابية خلال هذا العقد، غير أنه أضحى قوة مؤثرة في صناعة القرار بالإتحاد الأوربي والغرب عامة، إن الدولة لم تعد كيانا منسجما بالضرورة من الزاوية الثقافية، “أعتقد أن العالم يسير بخطى جنونية نحو الصدام الهوياتي في أشكال متعددة، وأكبر الأخطار هو عندما تحوز قوى عالمية قيادة العالم من زاوية ضيقة وسيصبح بذلك العالم في مواجهة نفسه بشكل رهيب”.(خالد شيات في تصريح لأسبوعية “الأيام” عدد 773 – 26 شتنبر 2017)..
ما أحوجنا اليوم إلى مراجعة الدول الكبرى لمواقفها من سيادة الدولة وحدودها، وعليها أن تتخلى عن كبريائها الاستعماري بعد أن أصابها ما اصطنعته في مستعمراتها السابقة، وهو ما رهن مسيرة تحريرها وتحررها، وأعاق تنميتها وحداثتها، وصرف جهودها في غير المعارك الحقيقية لتنمية الإنسان وعصرنة الدولة والاستجابة لحاجيات مواطنيها.
لقد بنت جبهة بوليساريو نفسها في البدء على قاعدة التحرير من نير الاستعمار الاسباني، وأضحى هذا هوية مميزة لوجودها، وبعد أن تحقق تحرر الإقليم، تحولت الحركة بعد أن وقعت في قبضة ليبيا والجزائر اللتين استعملتا قضية الصحراء لأهداف إستراتيجية مرتبطة بظرفية الحرب الباردة، “اليوم نتساءل أين وصلت معايير الوجود القائمة على البنية السابقة بالنسبة للانفصاليين؟ ليست هناك أجوبة، لأن كل ما يحملونه هو إرث ولا علاقة له بالمستقبل، تجندوا لخلق نزعة ذاتية مستقلة عن المغرب وقاموا بترحيل الناس إلى مخيمات بتندوف لهدف القطيعة الثقافية، ونجحوا نسبيا في ذلك، لكنهم لا يستطيعون الإجابة عن أسئلة المستقبل التي هي أسئلة استمرار وليست أسئلة وجود، لأننا لا نسائلهم عن شرعية ما يفعلون لكن عن أساسه، ويكفي أن نقول إن القبيلة لم تعد محورا لقيام الدولة لقد تسارعت الأحداث لتجعل من المكونات الجزئية عاملا لفشل قيام الدولة واستمرارها، وبالتالي لا يمكن أن يستمر المستقبل بالنسبة لهم بالشروط التي “يناضلون” من أجلها لقيام الدولة”(خالد شيات م.س).
إن التاريخ لا يمنح امتيازا للمستكينين إلى القناعات الكسولة، كانوا في هذا الاتجاه أو ذاك، لكن من خلال النظر إلى ما وقع بالصحراء حقيقة، برغم جرد كل الأخطاء، فإن جهدا تنمويا كبيرا وقع بأقاليمنا الجنوبية، وتبدو المنطقة واعدة لتحقيق مصالحات كبرى مع أبناء أمتنا وإخوان من أسرنا في الجهة الأخرى ومن خلاله مع هذا الامتداد في العمق الإفريقي، لكن الأمر يحتاج إلى شجاعة أخلاقية كبرى، تزيل وشم وآثار الجراح المتراكمة بالمنطقة، وضمن كل الحلول الواقعية الممكنة والمنصفة، يعتبر مشروع الحكم الذاتي الحل الأقل سوءا.. فتعالوا إلى كلمة سواء!