“إني باق معكم” عبارة جان كوكتو التي كُتبت على قبره
من قرية آيت واحي بنواحي تيفلت قَدمَ إلى جمر المرحلة بحماس الفراشات، وبعد إكمال دراسته الإعدادية بتيفلت، التحق بالرباط التي كانت أشبه بمختبر مسارات وتحولات النخب الجديدة القادمة من كل فجّ عميق، وفي ثانوية الحسن الثاني سيتأثر كثيرا بأستاذه في مادة الفلسفة الذي لم يكن سوى اليساري حسن بن عدي، حركيّته وتميزّه قاداه إلى عبد اللطيف اللعبي وأبراهام السرفاتي اللذين ظل يلتقط “أنفاس”هما في زمن الأحلام الكبرى وتطلعات الثورات الحمراء، انضم إلى منظمة “إلى الأمام” وكان عضوا نشيطا بها في زمن ملتهب قاد العديدين إلى المحرقة.
وعبر 17 سنة قضاها في زنزانة بعد أقبية التعذيب في درب مولاي الشريف، تعلم أن يُهرّب أمانيه إلى أماكن شهية، وأن يُنصت إلى نبض قلبه قبل ضجيج العالم، وحتى وهو يتحول إلى رمز للمصالحة الوطنية مع التاريخ والجغرافيا حافظ على التزامه وتواضعه ونقائه واستوعب الحكمة الفرنسية “ما استحق أن يُولد من يعيش لنفسه”.
رمز مخاض زمن صعب
لم يُسعفه جسده على الانتقال الديمقراطي، حيث اقتسام الحقيقة بالتساوي بين الجلاد والضحية على قاعدة الصفح الجميل في لحظة فارقة، مليئة بالأمل والحماس والتردد والغموض أيضا، لم يكن إدريس بن زكري مجرد اسم علم مفرد، إنه تجسيد لمخاض مرحلة بكاملها.. في مسار حياته نقرأ التحولات العميقة لذاكرة وطن يتعلم كل مرة المبادئ الأولى للحَبْو نحو دائرة النور.. إنه رمز مضيء لمرحلة انتقال كبرى للمجتمع ولمؤسسات الدولة.
في المرحلة الأولى أدّى الثمن غاليا، حين دَفنت السلطة المستبدة زهرة عمره في رماد الهباء، وفي المرحلة الثانية قدّم ما تبقى من عمره قربانا لتوطيد ركائز دولة حلم بها واشتهاها حد التوهم.. في شخص إدريس بن زكري تتقاطع مخاضات عسيرة للمغرب المعاصر.. ثقل جراح الماضي الرصاصي في كل أشكال الجحيم الهاديسي، الصراعات القاتلة بين رفاق الدرب بعد انكسار الأوهام وطغيان النرجسيات الجريحة، صمود حراس العهد القديم الذين كانوا يبحثون عن طي سريع لجرائم الأمس بلا صكوك الغفران مع استمرار عفونة جثثهم فاضحة في الحاضر، ومكيافيليات بعض الرفاق الذين لم يجدوا في إدريس بن زكري غير قميص عثمان ليعلقوا عليه شراهتهم للسلطة أو أحلامهم الموءودة، وكذلك ترتيبات رجالات العهد الجديد الذين كانوا في بداية تمرسّهم على السلطة بحساسياتهم المختلفة وتنافسهم حد الصراع، وكان ضحية الحقيقة التي سقطت من شعار المرحلة، بسبب المهندسين الذين وضعوا سكة ما سيحدث حتى قبل مجيء إدريس بن زكري لطبيعة مرحلة كان فيها النظام يتغير في ظل الاستمرارية.
بن زكري الإنسان القلق
خجول، متكتم، متلعثم، متواضع، ومناضل صارم غير مطعون في مصداقيته، حكيم وهادئ هو إدريس بن زكري، لكنه حازم وغير متردد في اللحظات الحاسمة، وظل يعيش قلقا خفيا يحمل وزره لوحده، عرف الإخوة والأعداء كيف يقتسمون جلده بالتساوي، ووقف أكثر من مرة حائرا، حتى لحظة تنصيبه من طرف القصر الملكي على رأس هيئة الإنصاف والمصالحة، بين إغراءات الأطر الصاعدة للعهد الجديد الذين كان يلزمهم وقود لقاطرة المرحلة وضغوط رفقاء دربه الذين اختلفوا حول تقييم قبوله قيادة مرحلة المصالحة. وكان عليه أن يلعب دور الشاهد والشهيد.
كان طاقة فتّاكة من العمل، كل الذين اشتغلوا إلى جانبه ظلوا يشتكون ويتحدثون عن قدرته الفائقة على التحمّل، والإرهاق السيزيفي الذي كان أكبر مما يتحمله جسده النحيف، منذ أن وُلد ثانية بيننا عام 1991، بعد أن غادر – صحبة رفاق عديدين – أسوار السجن بعد قضاء 17 سنة من أصل ثلاثة عقود التي حوكم بها، توجّه إلى المجال الحقوقي، لعلاج جراح سنوات “الحلم والغبار” في اليسار الجديد، عبر تعميق تجربته في مجال الاختفاء القسري والعدالة الانتقالية التي دفعت أكبر المنظمات الحقوقية العالمية للاحتفاء به، وفي لحظات الخيبات ومؤامرات التهميش كان يدفن همومه في قلب التكوين الأكاديمي اللسني والثقافي والتكوين الحقوقي.
بين الخيبات والانتصارات
لم يكن يدور بخلد أحد، لا في دوائر مركز القرار ولا في الوسط الحقوقي، أن إدريس بن زكري سيكون له دور حيوي في بداية المرحلة التي صيغت فيها تجربة المصالحة، بالمعنى الذي صار لها في التجربة الفعلية لهيئة الإنصاف والمصالحة فيما بعد.. فالرجل كان ناشطا حقوقيا يقود الضحايا في منتدى الحقيقة والإنصاف، الذي كان يطالب بحلول جذرية أساسية لم تخل منها أية تجربة للمصالحة والعدالة الانتقالية على المستوى الكوني، وفي مقدمتها محاكمة الجناة، وقبلها انحاز إلى المنظمة المغربية لحقوق الإنسان حيث وجد نفسه في إطار مُتْعَب ومثقل بالحسابات السياسية، كان الاتحاديون، مع بعض المستقلين ومنهم من كان منخرطا في حزب إداري، يسيطرون على دواليب التنظيم الحقوقي، فهرّب انشغالاته نحو التمكن من ثقافة حقوق الإنسان من خلال التدريب على آلياتها في الفترة غير الطويلة التي قضاها خارج المغرب، وشروعه في البحث الجامعي الذي كان قد أجّله مرارا حول اللغة الأمازيغية.. وهو المعروف بأنه قارئ جيد ومتتبع يقظ لكل ما كان يستجد في مجال بحثه في مجال اللغة والثقافة الأمازيغية.. ليقود بعدها إلى جانب فاعلين آخرين تجربة الفضاء الجمعوي.
طبيعة شخصية بن زكري المناضلة، والصعوبات التي اكتنفت وجوده بشكل عام، بين انحيازه الحقوقي لمعالجة أوضاع مرحلة فرضها الانتقال الذي جاء في أعقاب رحيل الملك الحسن الثاني، والمنحى المغاير الذي اختاره الخلفاء لانطلاق عهد جديد، أصبح للانتقال فيها عنوانه الأسود: “سنوات الجمر والرصاص الممتدة ما بين 1956 و1999″، والذي كان يعني الشروع في وضع اللبنات الأولى لفهم تجارب الماضي الأليمة، التي تميز أغلبها بالعنف والدم وكثير من المآسي والتهميش في مختلف مناطق البلاد.. كان مستبعدا جدا أن يكون بن زكري في قلب قاطرتها، حيث انصب العمل في انطلاق الدينامية المرتبطة بالعهد الجديد على الأفكار والمواقف التي يمكن أن تصوغ نوعا من الشرعية الجديدة المطلوبة لإدارة نظام الحكم في المقام الأول، والحياة السياسية والإدارية والاقتصادية في البلاد، ومعالجة بعض الحقب التاريخية الصعبة، بل المؤلمة (الصحراء، الريف…) التي تفردت بما تميزت به من تجاوزات في المقام الثاني، وفي الأفق دائما ضمان الاستقرار تحت عنوان الانفتاح والانتقال الديمقراطي والإشارات الإيجابية، يؤكد رجل وازن في اختيارات المرحلة وظل في فرنها الداخلي.
في هذا الإطار جاءت فكرة المصالحة السابقة على قدوم إدريس بن زكري الذي كان حينها يطالب رفقة الضحايا بالحقيقة والإنصاف، وهي المصالحة التي كانت معالمها قد توضحت بعد تأسيس لجنة التحكيم المستقلة، والذي قاد هذه المرحلة هو عمر عزيمان الذي لعب دورا محوريا في إعداد اللبنات الأولى لنظام المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهو يومئذ وزيرا للعدل، وهذا ما يفسر كيف أصبح عزيمان هو الرئيس الفعلي للمجلس مباشرة بعد قيامه.
فكرة الإنصاف (وليس الحقيقة) كانت فكرة العهد الجديد التي اقترح صيغتها عمر عزيمان على الفاعلين في الدائرة المقربة من السلطان، وأغلب أفرادها وأهمهم كانوا من طلابه في كلية الحقوق. أما فكرة المصالحة فهي وليدة المساومات التي كانت تجري في تلك المرحلة بين أولئك الفاعلين في تجربة العهد الجديد وجيل من اليساريين، أغلبهم كانوا منخرطين في تشكيل الأنوية الأولى التي عُرِفت شبه موحدة فيما بعد باسم اليسار الاشتراكي الموحد.
لم يكن من الوارد تماما في البدايات الأولى للألفية الثالثة، أن يكون إدريس بن زكري فاعلا مرشحا، رغم قيمته الشخصية ونضاليته المعروفة على المستوى السياسي، في قاطرة التجربة التي أقبل عليها المغرب في بداية العهد الجديد، سيصبح كذلك، بسبب ظروف خاصة تماما، لعب فيها الدور الأبرز فؤاد عالي الهمة باعتباره أحد العناصر المهمة في إدارة الانتقال. ولقد كان بن زكري فارس الرهان بامتياز.
الهمّة ينتصر لاختيار بن زكري
بعد اعتذار عبد الرحمان اليوسفي عن قيادة تجربة المصالحة، كانت هناك خيارات وأسماء رشحت لمهمة قيادة المرحلة لم يكن بينها أبدا إدريس بن زكري… لكن فؤاد عالي الهمة نجح في استقطابه وترجيح كفته، لأنه كان أميل إلى نخب جديدة وأن تكون من بين اليسار الجديد الذي له مصداقية، وقد حضرت الترتيبات الأولى لهذا الاستقطاب واللقاء الأول الذي كان بمنزل إلياس العماري بدوار الرجاء في الله بالرباط، رفقة علي بوزردة، وأحمد حرزني وأحمد لحليمي وعبد القادر الشاوي إضافة إلى فؤاد علي الهمة الذي كان يرتدي جلبابا، كان ذلك بداية سلسلة لقاءات ومفاوضات زكّت بن زكري لقيادة مرحلة فاصلة في العهد الجديد.
كان الرجل ضحية إيجابية لتجربة الإنصاف والمصالحة، لأنه في الوقت الذي انخرط فيه في تبرير حيثيات الانتقال على ضوء العهد الجديد واجه شكلين من التحديات: من بعض الأفراد اليساريين، رفاقه في التجربة والمنظمة والسجن، الذين انتقدوه بقسوة، على ضوء تصوراتهم “الماركسية اللينينية”، كمتراجع ومتعامل مع مخزن العهد الجديد، ومنهم من جرّحه تجريحا، وفي بعض الأحيان بنزعة فيها رفاقية أسيفة ترتبط بتجربة الماضي والمحنة الشخصية. أما الصعوبة الثانية فتكمن في الانحياز التلقائي، بدون وعي نقدي لطبيعة هذا الانحياز والأهداف المعلقة عليه، لجهة الدائرة التي كانت تفعل في جميع القرارات بتصورات أكبر أو أعمق من التصورات الظرفية التي بُنيت عليها فكرة المصالحة بشكل عام. أي أنه، صحبة أفراد مقربين من جيله، فهموا الإنصاف كتجربة لها سيرورة بناء وتشييد لمستقبل، فيما كان العهد الجديد يرى في المصالحة إجراءً كباقي الإجراءات الممكنة أو الضرورية التي يمكن بها معالجة أعطاب معينة في سيرورة التطور التاريخي للبلاد في مرحلة جديدة وبأساليب مغايرة. إصلاح أعطاب سياسة مرحلة قاسية لاستمرار النظام وضمان الاستقرار، من خلال بناء الشرعية وترتيب المصالح الكبرى مع الأطراف الأساسية الفاعلة في الاقتصاد والسياسة والمجتمع أيضا.
المعاناة هي الطريق نحو الصدق
على النقيض من الحكيم اليوناني ديوجنيس الذي كان يحمل مصباحا في واضحة النهار بحثا عن الحقيقة، كان إدريس بن زكري يحاول فقط أن يقدح شرر النور في جانب من عتمات الظلمات، فواجه في طريقه سلطا عديدة تُغَلّق الأبواب في وجه منافذ النور، وبين دينصورات العهد القديم الذين كان بإمكانهم إحراق كل شيء بما فيه ملفات الحقيقة لكي لا تستطيع الأجيال القادمة إيقاد شمعة في الظلام، وأيضا إخوته من بني جلدته الإيديولوجية الذين فضل بعضهم أن يلعنوا الظلام بدل أن يوقدوا شمعة، لذلك حتى بعض رموز العهد الجديد الذين نعوا الراحل إدريس بن زكري، أحسوا حجم الفقد حينما رحل إدريس، لكن وحده جسده الذي لم ينتعش بلذات الحياة كان وقودا لمرحلة سياسية بكاملها، لقد وهبنا بن زكري روحه ليصالحنا كمغاربة مع تاريخنا، مع جراحنا ويقودنا إلى سكة أفقنا المشتهى، الذي ظل مساره يصاب بالعطب.
كان يحس دوما أنه “أنا” جمعية، قال في حديث لصحيفة فرنسية عن مرحلة اعتقاله الطويل: “نشعر دائماً أن الجرح لم يندمل لكنه ليس شيئاً يفسدنا من الداخل. أقول نحن وليس أنا لأن كثراً واجهوا المصير نفسه”.. إنه رجل في أمة، صادق مثل قبلة منتزعة في غفلة من حراس الليل أو بين قذيفة وأخرى في ساحة معركة طويلة، أمين وكاتم سر، هش مثل بسمة طفل، صبور مثل جمل، علم يعلو على الهواء الملوث، هكذا هو إدريس بن زكري الذي سيظل وشما على زمن قاس بالمغرب، كان يعي أنه لا يمكن أن نصنع الخبز من قمح لم يزرع بعد، وأن الحياة ليست حصانا حتى يمكن حملها على الجري بالسياط كما يقول ماكسيم غوركي، وأن التراكم واستغلال اللحظة التاريخية ضروريان لحدس النضال السياسي والحقوقي، ووحده يعلمنا أن المعاناة هي الطريق نحو الصدق، لذلك اعتبر -إلى جانب العديد من الصادقين من جنود الظل- قائد مسلسل المصالحة وطي الصفحة السوداء لسنوات الرصاص، وجعل اللحظة الانتقالية شأنا مجتمعيا وليس مجرد ترف يستقطب اهتمام النخب.
برغم تعدد علاقاته، لم يكن هناك أكثر قربا من إدريس بن زكري سوى الراحل قاسم الغزوي الذي كان عضوا في مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، الذي تعرفت عليه أثناء عملي بحد كورت، كان مناضلا يساريا وإقطاعيا نبيلا، وذا علاقات بالطول والعرض في دواليب القرار، ظل قاسم يمتلك علبة أسرار الراحل بن زكري ومستشاره الذي يجد عنده مفاتيح ما كان يشكل عليه في مرحلة ملتبسة، وبرحيل قاسم الغزوي فقدنا الكثير من أسرار ذاكرة إدريس بن زكري.
كي لا تضر حقوق بحقوق
أتساءل دوما كيف تواضع بن زكري أمام 17 سنة مستلبة من زهرة العمر، بالتعذيب والقسوة والحرمان… ولم يكن حاقدا على جلاديه، وأجد الجواب في أنه عايش جراحا أقوى، واعتبر نفسه أنه كان في وضعية تفضيلية لأن هناك من عُذب لساعات قليلة وعاش بعاهات مستديمة أو خرجت روحه بين يدي جلاديه، لقد حقق في 16 ألف ملف لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وجاب جبال الأطلس والصحاري في المنحدرات والمسالك الوعرة، وأنصت إلى نساء ورجال عذبوا بشكل فظيع.. 16 ألف حالة من التعذيب والقسوة التي تنهدّ لها الجبال، ظل يحفظها عن ظهر قلب، ذاكرته كلها جراح وآهات وعويل، أن تعيش بين الرّفات والأنين والعذابات وكوابيس الأبرياء ودموعهم طوال يومك، وتستمر في الحفاظ على سلامتك العقلية وعلى بسمة خجولة تعلو وجهك، هذا أكبر انتصار ضد الموت وأكبر صفح جميل من أجل ترسيخ أسس مؤسسات تمنع أن يتكرر ما حدث مرة أخرى.
أتذكر عبارته النبيلة في مقر الفضاء الجمعوي الذي كان يضم مائة جمعية تهتم بجوانب متعددة من حقوق الإنسان، حيث عقد المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف، ندوة صحافية وطرح خلالها العزوزي متزعم جمعية ضحايا الصخيرات سؤالا حول استغرابه للتضامن مع معتقلي تازممارت، الذين كانوا في تقديره مجرمين واستحقوا ما حدث لهم، فأجاب بن زكري بذكاء وحب: “نحن لم نتضامن مع ما قام به العسكريون في الصخيرات، بل نتضامن مع قضائهم عقوبة خارج المدد المحكوم بها عليهم وفي شروط قاسية وغير إنسانية”، وأضاف بحكمة خبير حقوقي: “يجب أن نتعلم كيف لا تضر حقوق بحقوق أخرى”.
واجه بن زكري ثلاثة ملفات ملتهبة: المهدي بن بركة، حسين المانوزي وعبد الحق الرويسي، التي كانت أشبه بالجمرة الخبيثة بين يديه، وكان عليه إما أن يلعب من أجل كل الحقيقة أو يقبل بالتفكير في الملفات المأساوية للآلاف، ففضل مبدأ التدرج وانتزاع مكاسب حقوقية تقي الأجيال اللاحقة من تكرار ما حدث سنوات الرصاص، ثم غادرنا وفي نفسه حرقة من الملفات التي ظلت عالقة.
التقيت إدريس بن زكري عشرات المرات، وكل مرة كنت أجده هو هو.. حتى حين تجمح بي أجنحة الخيال أتصوره غامضا مثل زهرة القرنفل، خجولا مثل فتاة بكر، صامتا مثل بئر عميق لا يتردد فيه صدى صوت، قلقا مثل علامة استفهام، مستقيما خط انتصاب اليافع في مواجهة شكوكه… كان إدريس بن زكري ضحية العهد القديم حين قدم زهرة عمره قربانا لسجن حراس النظام، وجسرا للعهد الجديد لم يساوم أو يقايض على ثمن الانتقال.. لقد واكبت عن قرب اللحظات الموجعة والمخاض العسير لقبول بن زكري بقرار المغامرة من أجل الإنصاف والمصالحة صحبة كوكبة من أصدقاء مشتركين.. كلما التقيته، كان يبدو مثل غزال جريح، ولمستُ في عينيه ذلك التردد الصعب بين الخوف من غدر سلطة المخزن والرهبة من ضياع لحظة تأسيسية في الزمن المغربي الحرج.. كان لا يتكلم كثيرا لكن في عينيه ظلت تنتصب كل الأسئلة الموجعة.
ذات ليلة وقبل إعلان انطلاق مسار المصالحة بأسبوع، التقيته بالمقهى الألماني “غوته”، رفقة المبدع عبد القادر الشاوي عبّر لنا عن بعض تخوفه من سهام رفاق الدرب وشيطنة دروب المخزن، وأعاد على مسامعنا حكاية فاوست الذي باع نفسه للشيطان وفي اللحظات العصيبة لمخاض مبادرة تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة… رأيت في إدريس بن زكري يقينا لم أكن أؤمن به، وعلمني أن الأماني الكبيرة التي لا نستطيع التضحية من أجلها لا تستحق أن تعاش، أو أن نحلم بها حتى.
إدريس بن زكري الذي قادنا نحو إنصافنا، كان أكبر من الحقيقة رغم تواضعه، إنه لحظة التجلي الأسمى لانخراط الروح في وهج اللحظات المفصلية لتاريخ أمة.. أناني هو في قناعاته الوطنية، جاء في لحظة أشبه بالمخاض العسير لولادة أمة تسعى للمصالحة مع تاريخها وذاكرتها، وفي اللحظة التي كان يقود فيها المغاربة ليصالحوا جراحهم ويذهبوا نحو جلسات الاستماع مطهرين من أحقاد الانتقام عبر سياسة الصفح الجميل ويحاول أن يؤاخي بين ندم الجلاد وجرح الضحية، لم يلبث أن خاصمه جسده، وتخلى عنه في منتصف الطريق نحو الحياة.
ظل إدريس بن زكري فوق المساومات والترضيات الرخيصة، كان له حس إنساني دفين وخشي أن يموت قبل أن يوقع على أهم مكتسب اعتبر يومها رائدا في التجربة الوطنية للمصالحة، يتعلق الأمر بالتغطية الصحية لضحايا سنوات الرصاص.
قبل تقديم تاريخه كطحين رحى لمغرب المختبر المفتوح على كل الاحتمالات، أتذكر ما قاله صلاح الوديع يوما في لحظات التجلي الأسمى حينما علمنا بمرضه: (أخشى أن نضيع في هذه اللحظة التاريخية إدريس بن زكري.. إنه الأعمق فينا ممن يقود خطواتنا نحو المنافذ الأكثر توهجا من قداسة الشر).
في فيلا فؤاد علي الهمة الذي أشرف على تدبير مرحلة المصالحة بذكاء، التقيت ادريس بن زكري بتمارة، أحسست يومها أن الرجل أكبر من أن نختزله في جملة مفيدة، كان واضحا في شروطه التي تختصر وجع مرحلة، وأحترم اليوم في فؤاد إنصاته لما أسماه “إرغامات إدريس بن زكري”، يومها خاطب الرجل الأكثر نفوذا في القصر، بن زكري بدهاء رجل دولة: “إن المغرب يشاء اليوم عبرك الاعتماد على إمكانياته الخاصة وعلى عبقرية أبنائه لإنقاذه من ثقل ماضيه لمواجهة أسئلة حاضره وتحديات مستقبله”.
في الطريق إلى منزله بالرباط، التمس بن زكري أن أُنزله بشاطئ الهرهورة.. كنا قد تجاوزنا منتصف الليل بدعوى أنه يريد أن يتمشى على شاطئ البحر، رفضت ومازحته قائلا: “أنت الآن في ذمتي كرجل دولة وأي شيء سيحدث لك سيعرض مصيري للخطر”، وذكّرته بزمن الوجع حين كان معتقلا بالسجن المركزي بالقنيطرة وهمزت إلى النعيم الذي ينتظره وأنه سيدخل التاريخ من بابه الواسع، ذكره الشاطئ بواقعة حدثت بشاطئ سلا، بتنسيق وتواطؤ من الحراس جاء معتقلون سياسيون إلى المستشفى المعروف ب(البويبة) في الرباط، وذكر بينهم اسم الصديق عبد القادر الشاوي، حيث كاد رفيق مراكشي لا يتقن السباحة أن يغرق في الشاطئ عند مصب النهر، وضحكنا على ذلك اليوم الحزين المؤلم وعلى تحجّجه بأنه يريد البقاء على الشاطئ في آخر الليل.
إننا لا نموت حين نريد، ولكن حين نستطيع كما قال بطل “مائة عام من العزلة”. لذلك سيظل بن زكري أكبر من حزننا، أشعارنا، صداقاتنا ومن كل الكلام الجميل الذي يمكن أن نطرز به كفنه.. سيبقى وشما على ذاكرة المغرب.