لم يعد الفرنسيون يخافون من اليمين المتطرف، بل إن كثيرا منهم يرون فيه الخلاص من مشاكلهم، لذلك صوتوا بكثافة على لائحة جوردان بارديلا في الانتخابات الأوربية، وبَوّؤوها المرتبة الأولى، بأكثر من 31%، بعيدا عن لائحة الأغلبية الرئاسية، التي لم تحصل على أكثر من 15%. رغم أن بارديلا مجرد ظاهرة إعلامية، لا يملك أي تجربة سياسية، وكل رصيده سيلفيات وابتسامات، وحسابات مكتظة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه عصر السطحية، ونظام التفاهة يحكم العالم!
واضح أن الفرنسيين حسموا خيارهم، وهاهم يستعدون للتصويت على الحزب المتطرف ذاته، في الانتخابات التشريعية المرتقبة نهاية الشهر، بعد أن تحرك ماكرون بعكس التيار وقرر حل البرلمان والدعوة الى انتخابات مبكرة، زاعما أنه التقط الرسالة ويريد أن يعطي الكلمة للناخبين كي يحددوا من يحكمهم في السنوات المقبلة.
استطلاعات الرأي تعطي لحزب “التجمع الوطني” بزعامة مارين لوبن، نسبة 35% مقابل 24% فقط للجبهة الشعبية الجديدة، التي تضم تكتل أحزاب اليسار، بما فيها “فرنسا الأبية” بزعامة جان لوك ميلانشون، الذي نجحت الآلة الدعائية في شيطنته، وتقديمه كعدو للجمهورية ومعادٍ للسامية، لأنه تجرأ على خرق الإجماع الحاصل بين كل الأحزاب الفرنسية، يمينا ويسارا، بشأن منح إسرائيل صفة “الضحية” في مواجهة الفلسطينيين، حتى لو أبيدت غزة عن بكرة أبيها!
ظاهريا يبدو الرئيس الفرنسي أكثر ديمقراطية من خصومه وأنصاره، على حدّ سواء، ممن لم يعجبهم قرار حل الجمعية الوطنية. الرجل أنصت لصناديق الاقتراع واختار أن يرجع إلى الشعب كي يختار من يحكمه، لكن عندما نتأمل القضية بشكل أعمق، نكتشف أن القضية أشبه بخطة جهنمية، أعدها ماكرون على مهل، كي يربك خصومه، على اليمين واليسار، ويحقق أهدافا مباغتة، تجنبه الشعور بالإهانة بسبب هزيمة الانتخابات الاوربية النكراء، وتمكنه، بقليل من الحظ، أن يسدّ الطريق في وجه مارين لوبن، كي لا يسجل عليه التاريخ أنه الرئيس الذي منح مفاتيح قصر الاليزي الى اليمين المتطرف!
لكن بقليل من النحس، سوف يستيقظ الفرنسيون الشهر المقبل ويجدون الفاشية في الحكم. وليس سوء الحظ ما ينقص. بلاد الأنوار فقدت توازنها وتترنح في انتظار سقطة مدوية. فرنسا تمشي بخطوات متعثرة نحو المجهول. يمكن أن يحكمها في السنوات المقبلة شخص يُضيِّع “الكود بّين” للجمهورية. لقد طبّعَت البلاد تماما مع اليمين المتطرف.
انتهازية النخب، وترهّل النظام السياسي، حوّل الجمهورية من ديموقراطية عريقة الى مايشبه أوليغارشية، تقرر في مصيرها أقلية من رجال المال والأعمال، الذين يسيطرون على مفاصل الاقتصاد والاعلام، ويصنعون سياسيين على المقاس، يوزعونهم على مؤسسات الدولة.
الرأي العام الفرنسي اليوم “تلعب به” القنوات الإخبارية، بي إف ام وسي نيوز وإل سي إي، التي يملكها رجال أعمال معروفين، بويغ وسعادة وبولوري، وقد تواطؤوا على تسليم البلاد الى اليمين المتطرف، تماما كما قرر أهل الحل والعقد، تسليم السلطة إلى التيارات الاسلامية في العالم العربي، بعد احتجاجات 2011. ليس هناك فرق كبير.
مع زحف الفاشية على الحكم، تبدو حقوق الإنسان والديمقراطية، والمساواة والحرية والإخاء، مجرد مبادئ فارغة، لا تلزم إلا من يؤمن بها. كأن الجمهورية استأنفت علاقتها مع ماضيها الشيطاني. لا ننسى أن فرنسا استعمرت الجزائر، بلا سبب واضح، عام 1830، ثلاثة عقود بعد “الثورة” و”الإعلان العالمي لحقوق الانسان”، وطوال القرن التاسع عشر لم تتوقف الامبراطورية الاستعمارية عن التوسع، رغم الجمهورية ومبادئها، وواصلت سياساتها الفاشية حتى الحرب العالمية الثانية، حين وصل الماريشال بيتان الى الحكم، ووضع البلاد بين يدي النازية!
يكفي أن تتأمل السياسة الخارجية لفرنسا، خلال السنوات الأخيرة، كي نفهم أننا أمام دولة ترفع شعارات لا علاقة لها بالواقع، ولا تهمها إلا مصلحتها الضيقة. دولة تفضل تخليد ذكرى الإبادات القديمة على إيقاف الإبادات التي تجري في الوقت الحاضر. تماما مثل قصة الشخص الذي ذهب إلى المقهى وطلب قهوة مع “كرواسان”، واكتشف أنهم أعطوه “كرواسان بايت”، وحين سأل النادل: “واش ماعندكومش كرواسان ديال اليوم؟” رد عليه بكل ثقة في النفس: “بلى، كاين، لكن إذا أردته تعال غدا….
رغم أن اليمين المتطرف أسسه نازيون كانوا مع هتلر رفقة أعضاء في المنظمة السرية بالجزائر، فإن الفرنسيين لم يعودوا يرون أي مشكلة في وصوله إلى الحكم. “الطاعون البني” لم يعد خطرا في فرنسا، الخطر أصبح أحمر كما في العهد السوفييتي…
نحن اليوم أمام فرضيتين. إما أن ينتصر “التجمع الوطني” في السابع من يوليوز، ويصبح بارديلا رئيسا للوزراء، ويضطر ماكرون إلى “التعايش” مع عدوه الأول، علما أن بإمكان “التجمع الوطني” أن يرفض ترأس الحكومة، كي يجبر الرئيس على الاستقالة أو حلّ البرلمان مجددا والذهاب إلى انتخابات أخرى، مما يعني أزمة سياسية غير مسبوقة، مثل الأزمة في بلجيكا وإسرائيل، تعصف بالبلاد ومؤسساتها. الفرضية الثانية أن تنتصر الجبهة الشعبية الجديدة، ويشكل اليسار الحكومة المقبلة، وبالنظر الى برنامجه الحالم وصراعاته وانقساماته الحادة، سيكون مرور اليسار في الحكم مبررا كافيا كي تحسم مارين لوبن معركة الرئاسيات من الدورة الاولى عام 2027. كل الطرق تؤدي إلى اليمين المتطرف!