كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
مفاوضات سرية في اتجاه الباب المسدود (1)
يوم اضطرت الجزائر إلى الدخول في مفاوضات مع المغرب حول مجمل الخلافات العالقة، في أواخر سبعينيات القرن الماضي.. مهدت لذلك بأكثر من اجتماع شارك فيه بعض قادة بوليساريو ومسؤولون جزائريون بارزون، وبرغم طابع السرية التي أحيطت بظروف الإعداد لتلك المفاوضات، فقد سربت الجزائر معلومات عن تلك الاجتماعات وإن بدون إعطاء تفاصيل ضافية، وكان الغرض من ذلك الإيحاء بأنها ستذهب إلى مفاوضات مع المغرب حول قضية الصحراء، وأنها استشارت مع بوليساريو لهذه الغاية، كي لا يُفهم أنها تُفاوض نيابة عنها، مع أنها في الحقيقة كانت تفعل ذلك، بحكم أنها الوصية على الجبهة الدائرة في فلكها.
غير أن التئام المفاوضات التي خضعت لسرية تامة في عواصم أوروبية، كان يعني في حد ذاته أن الجزائر تُفاوض نيابة عن نفسها، مادام أن القضية المحورية على جدول أعمال تلك الاجتماعات التي شاركت فيها شخصيات عسكرية ومدنية من الجانبين الجزائري والمغربي لم تخرج عن نطاق البحث عن مخرج لقضية الصحراء التي كانت دخلت عامها الثالث والرابع، وسط ذهول جزائري إزاء قدرة المغرب على الصمود، في وقت كانت الجزائر تترقب فيه انهيار البلد الجار في ضوء استئناسها باستقراءات موغلة في التأويلات الخاطئة.
وسيعبر الرئيس الجزائري هواري بومدين عن هذه الحقيقة لدى إعلانه بأنه لو كان يتصور أن المغرب سيصمد في معركة الصحراء لغَير مواقفه من أساسها، إلا أن الموت الذي غيبه قبل انعقاد القمة المغربية- الجزائرية، لم يسعفه في تحقيق توقعاته الأولى أو مراجعاته اللاحقة، كان الأوان قد فات.
أدرك المفاوض المغربي حدود اللعبة جيدا، ولم يشأ في أي فترة أن يقلب الطاولة، لأنه كان على شبه يقين بأن ازدواجية الموقف الجزائري قابلة للاستيعاب.. إن لم يكن في الحال، فعلى مراحل عسيرة لكن في الإمكان التغلب عليها بالمرونة وضبط النفس ومسايرة الميولات إلى حين أن تتغير عبر الإقناع والاقتناع.
كان المغرب أكثر إصرارا على تأمين سبل النجاح لمفاوضات غير هينة، خصوصا وأن المبادرة صدرت من الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، الذي كان بدأ يعاين سقوط فرضيات حول مآل المواجهة مع المغرب في أكثر من حرب فُرضت في غفلة من رقابة الوعي التاريخي.
الاستخلاص الأكثر مثولا في تجربة تلك المفاوضات التي دارت في جنيف وباريس وبروكسيل والرباط، أن الجزائر لم ترغب في فك ارتباط بوليساريو معها أو ارتباطها مع بوليساريو كورقة لا تحيد عن الحدود المرسومة للاستعمال، ومن أجل أن تحافظ على تلك الصلات المعروفة.. كانت الاجتماعات التي عقدتها في العاصمة الجزائرية مع قياديين من بوليساريو، تُراد للقول إن مواقفها لا تستطيع تجاوز سقف محدد، وفي الآن ذاته كانت تؤشر إلى أن في إمكانها في أي لحظة أن تضع حدا لذلك الارتباط بين أن تجد لنفسها ذريعة وأعذارا، من قبيل أنها لا يمكن أن تذهب أبعد في الاتفاق مع المغرب على كل شيء، مادام هناك طرف أخر اسمه بوليساريو.. وبين التلويح غير المباشر بأنها يمكن أن تُعيد الملف إلى مربع نقطة الصفر، كانت المفاوضات تراوح مكانها، في انتظار إنضاج الرؤية التي ظلت تحجبها أوضاع داخلية، كما في التموقعات التي تسبق رحيل أي قائد سياسي، خصوصا إذا كان في حجم الراحل هواري بومدين الذي كان يمسك بزمام الأمور بقبضة من حديد.