الغرب مشروع استعماري، بارع في صناعة المساحيق والأقنعة كي يخفي وجهه البشع، ولعابه الذي يسيل وهو يهمّ بافتراس الشعوب وخيراتها. مَن أباد الهنود الحمر في العالم الجديد، واستعبد الملايين لأن بشرتهم ملونة، وحوّل ملايين أخرى إلى خَدَمٍ وأهالي، يأكل غلتهم وينعل ملتهم، واستباح أراضيهم كي يسرق خيراتها، لعدة قرون… هو نفسه من يتعهد اليوم مشروعه الاستعماري في الشرق الأوسط، بما يلزم من سلاح وعتاد وقتل ونفاق وكذب. الأداة اسمها “إسرائيل”. بقليل من الاختزال، يمكن أن نقول إن الغرب الذي أباد اليهود عن بكرة أبيهم في الحرب العالمية الثانية، هو نفسه من صنع لهم دولة وزودها بالسلاح كي تتحوّل إلى آلة قتل في فلسطين ولبنان وما جاورهما، من أجل تأبيد مخططه الاستعماري.
قبل أن تفكك بريطانيا إمبراطوريتها التي لا تغرب عنها الشمس، حرصت على تلغيم المنطقة بأكملها كي يستمر المشروع الاستعماري بالمناولة. حين خرجت من الهند، وكي تتخلص من خطرها المستقبلي، اقتطعت باكستان وبانغلادش، حيث 96% من السكان مسلمون، كي يتحوّل الإسلام إلى ديانة ثانية بعد الهندوسية. هكذا خلطت الاوراق وتخلصت نهائيا من خطر دولة مسلمة عملاقة. كما دفعت العرب إلى التمرد على الأتراك، بتحريض من جاسوسها الشهير لورنس العرب، الذي ضحك على الشريف الحسين، “جرّ ليه الشحيمة” ووعده أن يصبح خليفة بدل الخليفة، وبمجرد ما ساهم في إسقاط الخلافة العثمانية انتهى دوره وتخلت عنه بريطانيا كما تتخلى عن أي منديل مستعمل. بفضل هذه المناورات، ارتاح الغرب من الخطر العثماني والهندي والعربي دفعة واحدة. وكي لا تقوم لهم قائمة زرعت إسرائيل في المنطقة ودفعت إلى مواجهة مفتوحة بين اليهود والعرب، ما زلنا نشهد فصولها الدامية بعد أكثر من سبعة عقود. كل جهود العرب، منذ خروجهم من الاحتلال المباشر، ذهبت في الصراع مع إسرائيل. علما أن الدولة العبرية غير ممكنة من دون الولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الغربيين، واليهود في النهاية مثل العرب، “ضحايا” مشروع شيطاني وُضِعَتْ لبناته الأولى في بدايات القرن العشرين، بعد أن “دخل الماء” على الإمبراطوريات الاستعمارية، وعرفت أنها منهارة لا محالة. طبعا، الدور الغربي لا يعفي فريق القتلة في تل أبيب من مسؤولياتهم الجنائية والأخلاقية والتاريخية، إنه مجرد حفر في جذور المأساة. من منظور التحليل النفسي نستطيع الحديث عن “متلازمة ستوكهولم”، التي تجعل الضحية يقلد جلاده. في إحدى قصائد محمود درويش حوار بديع بين الضحية الجديدة والضحية القديمة بعد أن تحولت إلى جلاد:
“-أهو أنت؟
ألم أقتلك؟
-بلى قتلتني
ونسيتُ
مثلك
أن أموت!”
مثلما لم يمت اليهود بعد أوشفيتز، لن يموت الفلسطينيون واللبنانيون مهما رمى عليهم نتانياهو وعصابته من قنابل، ومهما قتلوا من القادة سيأتي من يخلفهم. المقاومة فكرة والأفكار لا تموت، ولن تنتهي حتما بمقتل نصر الله وهنية وشكر والضيف والسنوار، كما لم تنته بمقتل أبو جهاد والرنتيسي وأحمد ياسين والموسوي ومغنية… بل زادت حدة وشراسة.
إسرائيل كيان هش، لولا الحماية الغربية، لكان مصيرها مثل دولة داعش. في السنوات الأخيرة استطاعت أن تحقق مكاسب استراتيجية عبر اتفاقات أبراهام، التي أعطتها أفقًا لتعايش ممكن مع محيطها. لكنها اليوم، بعربدتها الجديدة، قوضت كل شيء. زرعت من الحقد لدى جيرانها ما يكفي أربعة أجيال أو أكثر. ليست حماس ولا حزب الله ولا إيران من سيهزم إسرائيل بل هي الديموغرافيا. تسعة ملايين شخص أمام مليار من “الأعداء”، ألطفهم يتمنى عقوبات دولية وأشرسهم يريد محوها من الخريطة. يمكن أن تربح إسرائيل حربا أو عشرة حروب لكن المعركة طويلة جدا، والحقد ينتقل من جيل لجيل. إلى متى سيظل الغرب يدافع بنفس “البسالة” عن الدولة العبرية؟ إلى أيّ حدّ يستطيع مواطنوها، الذين تعودوا على الرخاء ودعة العيش، مواجهة ملايين الراغبين في الانتقام خلال العقود المقبلة؟ لقد نثر نتنياهو بذور ما هو أفظع من السابع من أكتوبر… الزمن دوّار، وبيننا وبينهم الأيام والليالي والميدان!
“قَتَلْتَني ونسيتُ مثلك أن أموت!”
بواسطة جمال بودومة