“المحاربون المنتصرون يكسبون في البداية، ثم يذهبون إلى الحرب. أما المحاربون المنهزمون، فيذهبون إلى الحرب في البداية، ثم يسعون إلى الانتصار” صن تزو
بالنسبة للغرب هو رجل دموي، ديكتاتوري صغير، ستبقى يداه ملطختان بدماء الأوكرانيين، رجل مجنون يعاني من متلازمة غطرسة السلطة، لكنه في الجزء الشرقي من الأرض يعتبر فلاديمير بوتين بطلا قوميا، سياسيا ذكيا وزعيما طموحا أعاد النخوة وانتقم من غطرسة الغرب الإمبريالي، فمن يكون هذا الرجل الذي جعل البشرية تضع يدها على قلبها خوفا من نشوب أول حرب عالمية في القرن الواحد والعشرين؟
“ليست السلطة دليلا كافيا لإثبات الحقيقة” كما قال السياسي الموسوعي صمويل جونسون، لكنها في عالم اليوم، تبدو السلطة وحدها قادرة على خلق حقيقتها وتسييدها على العالمين، وحين تذهب السلطة نحو أبعد مدى فإن لا عقال يربطها، ذلك هو المنطق الذي ساد العالم منذ زمن غير بعيد، لم يعد توازن القوة خالقا للسلام بل دافعا للحرب، يقول فلاديمير بوتين: “إذا كان القتال ضروريا فيجب أن تكون صاحب الضربة الأولى”، لا يتعلق الأمر بحلبة لصراع الملاكمة أو لأحد فنون رياضة القتال، بل بأرض السياسة، منذ 2014 كانت روسيا تحس أن حلف الناتو يحيطها بحزام يضيق الخناق على تنفسها، بقطع من الدول كانت إلى الأمس القريب جزءا من روسيا القيصرية أو امتدادا حيويا للاتحاد السوفياتي الذي كان يمسك بنصف قرني الثور الذي يدير العالم على رأسه، فيما تمسك الولايات المتحدة الأمريكية بالقرن الآخر، فما هو المسار الذي عبره هذا الرجل الذي أقام الدنيا اليوم ولم يقعدها، فشغل الناس وأصبح اسمه أكثر الأسماء تداولا في العالم في محرك البحث العالمي غوغل، وعلى واجهة الصحف والإذاعات والتلفزيونات، وتلوكه الألسن في التجمعات والمنتديات وجلسات السهر..
في سيرة الميلاد والتكوين
رأى فلاديمير بوتين النور في 7 أكتوبر 1952 في لينينغراد بالاتحاد السوفيتي التي تعرف اليوم في روسيا باسم سان بطرسبورغ، كان الطفل الثالث للزوجين فلاديمير سبيريدونوفيتش بوتين وماريا إيفانوفنا بوتينا، عمل والده طباخا لكل من لينين وستالين وتجند كعسكري في صفوف القوات السوفياتية في الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أم بوتين عاملة بسيطة في أحد المصانع، عانت أسرته من جحيم الهجوم النازي، حيث قتل منها العديدون، وكادت أمه تلقى حتفها حين كانت ممددة بين الأموات وجرى الإعداد لدفنهم في مقبرة جماعية، إلى أن انتبه أحد الممرضين للسيدة الحامل التي لا زالت تصعد أنفاسها، ليتم إنقاذها ولتلد بعدها طفلها بوتين الذي نجا من الموت بأعجوبة.
تلقى بوتين تعليمه الأولي في شتنبر 1960 بالقرب من منزله، ودرس الألمانية التي أصبح ينطقها بسهولة، ولأنه وجد نفسه يتيما برفقة تلاميذ كبار، كان لا بد أن يثبت وجوده بشراسة، وهو ما اضطره لتعلم رياضة الجودو، بعد دراسة القانون بجامعة لينينغراد انضم إلى المخابرات السوفيتية KGB عام 1975 ونشط في شعبة أمن الدولة حتى قبل تخرجه، تشير كتابات حققت في سيرة فلاديمير بوتين حين أصبح شاغلا للعالم منذ ولايته الثانية.
مرحلة مليئة بالأسرار والغموض
غادر فلاديمير نحو دريسدن في جمهورية ألمانيا الديمقراطية عام 1985 ليصبح مسؤولاً عن تجنيد الجواسيس تحت غطاء وظيفة قنصلية، وقبلها بقبعة مترجم، وفي 28 يوليوز 1983 تزوج بوتين من ليودميلا شكريبنيفا حيث عاش الزوجان في ألمانيا الشرقية من عام 1985 إلى عام 1990 وأنجبا بنتين، لكن سرعان ما بدأت الشائعات تنتشر بأن بوتين قد طلق شكريبنيفا بعد تورطًه في علاقة عشق مع لاعبة الجمباز الأولمبية السابقة ألينا كابيفا التي نفت القصة بأكملها، لكن في وقت لاحق ستظهر تقارير تذهب إلى أن بوتين وكابايفا أنجبا عدة أطفال معًا، حيث ورد أن ابنة واحدة ولدت عام 2015 وابنين توأم في عام 2019. وفي نهاية المطاف تم الإعلان عن طلاق بوتين وشكريبنيفا في 6 يونيو 2013.
علاقة أخرى مثيرة للانتباه في مسار الرئيس الروسي، هي تلك التي جمعت بوتين الشاب مع أناتولي ألكسندروفيتش سوبتشاك المحامي السابق والأستاذ المساعد الذي درس قانون الأعمال في جامعة لينينغراد، الذي كانت لديه فضائل كبيرة على تكوين بوتين، وكلاهما أسدى خدمات جليلة لبعضهما البعض، فبوتين استقدم صديقه وأستاذه الذي وضع أول دستور لروسيا الحالية، وسوبتشاك الذي كانت له علاقة مع معاهد الشرطة والأجهزة السرية التي كان يُدرس بها، قد يكون أول من استقطب أو أغرى بوتين بجاذبية الانضمام للكاجيبي، التي عمل فيها كقبطان تروى عنه حكايات عن تسلطه وتجبره خلال عمله بألمانيا كما يروي ذلك العميل السابق سيرجي جيرنوف.
سقوط برلين بداية الجرح النرجسي
حين كان العالم يغير جلده في نهاية الثمانينيات كان فلاديمير بوتين في قلب الأحداث الجارية، وحين كان المحتجون في عام 1989 يُعملون مطارقهم ومعاولهم لإسقاط الجدار الفاصل بين دولتين، بين عالمين، بين مرحلتين تاريخيتين، كان بوتين حاضرا على ما سيصبح جرحا نرجسيا ملازما له، انهيار المعسكر الشرقي وانتصار الغرب الإمبريالي وميلاد النظام العالمي الجديد، جاء غورباتشوف إلى الحكم، ومعه البريسترويكا وسياسة الغلاسنوست، ومعها كان الاتحاد السوفياتي يتفكك قطعة قطعة، مثل قطعة أثرية قديمة، ومعها كل الأحلام وأسرار القوة السوفياتية، حتى شاهدنا الجماهير تحطم تمثال لينين وتجره في الساحة الحمراء التي تغنى به المغني الفرنسي الشهير جلبير بيكو في أغنيته “ناتالي” للشاعر بيير دينالو: “كانت الساحة الحمراء فارغة/ كانت ناتالي تسير أمامي/ كان لها اسم جميل مرشدتي السياحية/كانت الساحة الحمراء بيضاء/صنع الثلج سجادة/ تتبعت خطوات ناتالي التي كانت تتحدث بجد عن ثورة أكتوبر/ كنت أفكر في زيارة قبر لينين/ أن نحتسي الشوكولاتة في مقهى بوشكين.. ناتالي التي سيحلم بوجودها في باريس ليصبح مرشدها السياحي.
كان المسؤول الأول يومها عن المخابرات السوفياتي في ألمانيا، وقد نجح في حرق العديد من الوثائق السرية وهرب بعضها إلى موسكو، لكن انفجار الفرن الذي كان يحرق الوثائق السرية جعل ألمانيا تضع اليد على جزء هام منها، وإن كان لا يساوي شيئا بما نجح بوتين في تهريبه أو حرقه.
ترقيات تقود الرجل السعيد إلى القمة
تم استدعاء بوتين إلى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، بعد أن أثيرت إشاعات شكوك قوية حول وفاء بوتين من طرف خصومه ومنافسيه، وهنا سيظهر من جديد وفاء أستاذه وصديقه سوبتشاك، إذ ما أن عاد بوتين إلى لينينغراد حتى عين مستشارا للشؤون الدولية لأناتولي سوبتشاك، أستاذ القانون السابق الذي أصبح عمدة المدينة. ثم عينه عام 1994 مساعده الأول. وسرعان ما ستتسارع الترقيات في حياة بوتين، إذ انضم الشاب الطموح في عام 1997 إلى الإدارة الرئاسية لبوريس يلتسين في موسكو. وبعد عام، أصبح مديرا لجهاز الأمن الفيدرالي FSB، ثم رئيسا للحكومة في 31 دجنبر 1999، بعد استقالة يلتسين المفاجئة تولى بوتين الرئاسة المؤقتة للاتحاد، وفي مارس 2000 تم انتخابه رسميا بنسبة 53٪ من الأصوات.
ظل بوتين رئيسا لروسيا لولايتين حتى عام 2008. حيث فاز في ولايته الثانية بنسبة عالية، أكثر من 71٪ من الأصوات. ورغم أن الدستور كان يمنعه من الترشح لولاية ثالثة على التوالي، فإن بوتين شغل منصب رئيس الوزراء على عهد ديمتري ميدفيديف، الذي كان رئيسا ظاهريًا حيث حافظ بوتين على نفوذه السياسي، لذلك ترشح وفاز بفترة رئاسية ثالثة في عام 2012 بنسبة 64٪ من الأصوات، بعد أن كشف ميدفيديف أن الرجلين أبرما صفقة قبل سنوات للسماح بحدوث ذلك.
وتميز عام 2018 بفوزه في انتخاباته الرابعة بأكثر من 76٪ من الأصوات، وفي 25 ماي 2018، أعلن بوتين أنه لن يترشح للرئاسة في عام 2024 امتثالاً للدستور الروسي، ومع ذلك فقد عمل بذكاء على إدخال تعديلات كبيرة على الدستور تسمح بأن تمتد سلطته إلى ما بعد هذه الولاية الرابعة.
بوتين ينقذ روسيا من التفكك
استعمل الغرب قضية حقوق الإنسان والإغراء الاستهلاكي لتفكيك الاتحاد السوفياتي، وحين وضع بوريس ييلتسين كل البيض في سلة الغرب، وجد نفسه بلا دعم ولا إعانة من عدو الأمس وصديق اليوم، ومجموعة الثمانية كانت تفكر في إضعاف وتحرير السوق الروسية أمام غزو شركاته أكثر مما ساعدت روسيا الجريحة على استعادة عافيتها، لذلك حين جاء فلاديمير بوتين إلى الكرملين، وجد روسيا تعاني مشاكل اقتصادية وثقل إرث الماضي وشراسة استغلال أمريكا لفراغ العالم بعد قيام النظام العالمي الجديد الذي مدد قدميه في الشرق وضم حلف الناتو دولا عديدة، لذلك ركز بوتين سياسته على الانتعاش الاقتصادي واستعادة “عمودية القوة” وإنهاء التحرير الذي أدخلته البيريسترويكا، وساعده ارتفاع أسعار الغاز والبترول على إخراج روسيا المنهكة قوية ومتماسكة وذات طموح لاستعادة نفوذها الإمبراطوري وموقعها في العالم الجديد الذي لا زالت ملامحه قيد التشكل. لقد سن سياسة اقتصادية قوية مكنت الدب الروسي من استعادة عافيته بل ويصعد إلى الرتبة 12 في الترتيب العالمي، ومعها سياسة اجتماعية اتجاه الفئات المتوسطة والفقيرة في المجتمع الروسي، هي سبب شعبيته ورسم صورة زعيم قومي في متخيل الروسيين الذين جعلوه يحكم روسيا من نهاية 1999 حتى اليوم.
لذلك مع ازدياد شعبيته واستقرار الأوضاع الروسية، بدأ سيد الكرملين يتحدث عن القوة النووية الروسية ويتدخل خارج الحدود المرسومة لروسيا سابقا، في ليبيا وتشاد وسوريا واليوم في أوكرانيا بالقوة بشكل مباشر. لقد أعاد للحرب الباردة شعلتها وجذوتها.
بوتين بين الغرب والشرق
حين انتقد رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مجلس العموم، قدمه في ثوب الدكتاتور المستبد والمتعطش للدماء، حيث قال: “بوتين هذا سيظل مدانًا في أعين العالم والتاريخ. لن يكون قادرا على تطهير يديه من دماء أوكرانيا. الآن نراه على حقيقته: معتد، ملطخ بالدماء، يؤمن بالغزو الإمبراطوري”.
تعكس تعليقات جونسون صدى مشاعر قادة العالم الغربي اتجاه بوتين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، بل اجتهد الإعلام الغربي في تقديم بوتين كمجنون للسلطة وباستثناء ترامب الذي وصف الرئيس الروسي ب”القائد الذكي”، نكاية في بايدن “البليد” حسب وصفه، بل هناك من غاص في تحليل نفسية فلاديمير بوتين الذي يعاني “متلازمة الغطرسة” حسب ديفيد أوين الطبيب ووزير الخارجية البريطاني الأسبق، حين كتب إن متلازمة الغطرسة تتوافق مع “تغير نفسية الشخص بعد وصوله إلى السلطة”، وكما يوضح سيباستيان دييجيز، الباحث في علم الأعصاب والمتخصص في سيكولوجية السلطة. الذي اعتبر بوتين حالة من “السلطة المطلقة”،
بوتين حسب هؤلاء له رؤية غير متناسبة مع قدراته ومكانته على الأرض. شخصية معتدة بنفسها وتعتقد أن لديها مهمة يتعين عليها إنجازها، هل بوتين يعاني من الغطرسة؟ يقول سيباستيان دييجيز: “هذا أمر معقول، لقد كان في السلطة لفترة طويلة وهو يحاول البقاء هناك بكل الوسائل. فلاديمير بوتين يعيش في عالم خيالي وصدق أكاذيبه التي خلقتها توهماته. إنه يعاني أيضا الوحدة والعزلة”.. لكن في روسيا والعالم الشرقي يعتبر بوتين زعيما قوميا، وبطل حرب وقائد وطني عليه إجماع استثنائي قد يدخله التاريخ إذا نجح كيف يخرج من المستنقع الأوكراني بأقل الخسائر الممكنة.