عندما نتأمل ما يجري حوالينا في مختلف أطراف المعمور، نكتشف أن لاشيء تغير منذ جدنا الديناصور: الشر هو الشر والخير هو الخير والإنسان أخطر وحش على وجه البسيطة، لا يجاريه في الشراسة الأسد ولا النمر ولا التمساح ولا بقية سكان الغابة المحترمين. الإنسان كائن دموي يأكل لحم أخيه نيئا، حيا وميتا، ويشرب نخب احتيالاته في كل العصور، في كأس أو جمجمة. يتفوق على نفسه في البربرية. اخترع السكين والسيف والبارود والقنبلة النووية والطائرات المسيرة والصاروخ الباليستي… أباد الأشجار والحيوانات والأسماك وجرب إبادة نفسه أكثر من مرة. سواء كان ناطقا أو أخرس، “الإنسان حيوان نصاب بطبعه” -رغم أنف أفلاطون- يحتال على الطبيعة والجماد والتاريخ والجغرافيا والعقل والعاطفة، يلبس قناع الود والعطف والرحمة كي يموه فريسته ويخرج أنيابه في الوقت المناسب وغير المناسب، كل يوم يحاول أن ينتصر على بدائيته ويفشل. اُنظر إلى الجثث التي تسقط كل لحظة، وكيف يتفرّج الناس على القتلى والجرحى والمجوّعين، دون أن يرفّ لهم جفن. كأن الإبادة لا تكون إلا بالأبيض والأسود.
تأمل الدماء التي تسيل، وحاول أن تتخيل البحار الحمراء التي سفكت منذ جدنا آدم. محيطات من الدم، تضليل وتغرير ولعب بالعقول والغرائز عبر كل الوسائل، وقصة تتكرر بسيناريوهات متشابهة وممثلين متناسخين ونهايات مأساوية. الحرب موجودة في الصدور وفي النظرات والغرائز والنزوات. النفس البشرية “أمارة بالسوء”. قابيل يقتل هابيل في كل لحظة، ولا أحد يأخذ العبرة من الدم الذي ينادي الدم. وحدها التفاصيل الخارجية تبدلت، لكن العمق عابر للقرون والحقب والأزمنة. الإنسان الذي يبني هو الإنسان الذي يهدم، مَن رفع الأهرام وسور الصين وتمثال الحرية هو من أحرق روما وبغداد ومخطوطات تمبكتو وهدم برلين وتماثيل بوذا ومبنى التجارة العالمية، ويدمر اليوم غزة وبيروت. القشور تزول واللب ثابت لا يتغير. اكتشف النار أو الكهرباء، التلفون أو الإنترنيت، صعد إلى الإيفريست أو إلى القمر، ابن آدم هو ابن آدم: يتألم ويبكي، يفرح ويحزن، يغار ويحسد، يغضب ويشتم، يقبّل ويعضّ، يموت ويولد… آلة من الأحاسيس، تعيد إنتاج نفسها إلى الأبد، وتوهم نفسها أنها “تتطور”. كلما تقدمنا نكتشف أننا رجعنا خطوة أخرى في اتجاه بدائيتنا الأولى.
بدأنا بالنط في الكهوف والأدغال وانتهينا بالتقافز على “تيكتوك” و”يوتوب”. الفضل يعود إلى أشخاص مروا قبلنا ورسموا الطريق بنعالهم وتعبهم وغبار أقدامهم، وجثثهم أحيانا. لحسن الحظ أنهم عبروا من هنا، وتركوا أثر خطواتهم على الطريق. الكبار الذين أمضوا حياتهم يفتشون عن طريقة لترويض الوحش، واكتشاف الإنسان في الإنسان، وتركوا لنا “وصفاتهم”. عمالقة أضاؤا ليل العصور مثل شموع. كلما دَنَوْتَ من العمالقة تحس أنك قزم. كم نحن صغار قرب العلماء والحكماء والأنبياء. أشخاص مثلنا، أو تقريبا مثلنا، لكنهم أخرجونا من الظلمات إلى النور، من البدائية إلى الإنسانية، من التردد إلى اليقين، أو من اليقين إلى التردد. بفكرة أو اختراع أو كتاب أو موقف غيروا العالم. موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وسقراط وابن رشد وسبينوزا وأرخميدس وغاليلي والخوارزمي وأينشتاين، عليهم السلام أيضا. هؤلاء وكل من تعرضوا للنبذ والتنكيل لأنهم تشبثوا بأفكارهم وقناعاتهم يستحقون تماثيل في متحف الحرية… لحسن الحظ أن البشر ليسوا كلهم أقزام، بل هناك عمالقة يحاولون ترويض الوحش وإخراجه من الغابة، في كلّ عصر، رغم أن عددهم قليل جدا في كوكب الأقزام!
أخطر الوحوش!
بواسطة جمال بودومة