“شارع الحشرات”.. الأمر لا يتعلق بعنوان لرواية للكاتب الروسي ” دوستويفسكي”، حيث تتصارع الأرواح مع البؤس والذنوب، ولا بمسرحية هزلية لشكسبير، حيث تُلبس المأساة قناع الفكاهة. بل هو حقيقة حيّة، تتنفس في ضواحي مدينة سلا، حيث الكلمات تُرفع كرايات فوق رؤوس البشر لتصنفهم في مراتب “سريالية” من الكرامة حتى لا نقول “اللاكرامة”.
في حيّ سكني يحمل اسمًا مثيرًا للإهانة، “شارع الحشرات”، تُكتب حكاية عن الصمت الذي يرافق الذل. ليس الذل الناتج عن الفقر أو غياب الفرص فحسب، بل الذل الذي يُطبع على الهوية اليومية من خلال اسمٍ يبدو وكأنه حكم مُبرم. في هذا الشارع / الزقاق ، تتبدل الأسماء إلى وصمات، ويصبح العنوان بطاقة تعريف اجتماعية تقزّم ساكنيها إلى ما دون مفهوم الإنسان.
ما الذي يدفع مدينة إلى هذا المستوى من اللامبالاة؟ أن تُسمي شارعا، حيا، أو “زنقةً” بهذا الشكل، يعني أنك تختزل كل من يعيش فيها إلى كائنات لا تستحق أكثر من احتقار عابر. كيف يمكن لطفل أن يواجه العالم وهو يعلم أن عنوانه الخاص يُعرّفه كأنه جزء من حكاية غير مرئية عن التهميش؟ كيف يمكن لأب أو أم أن يقولا بفخر “نحن من سكان شارع الحشرات”؟
هل يمكن أن نتخيل أن تُسمى أحياء في باريس أو نيويورك أو حتى الرباط بأسماء تحمل هذا القدر من الاحتقار؟ هل يمكن أن نرى شارعا في الحي الراقي “الرياض” أو “أكدال” أو “السويسي” أو “كاليفورنيا” يحمل اسمًا يشير إلى الحشرات؟ بالطبع لا. لأن الأسماء هناك تُختار بعناية، تُصاغ لتعكس الفخر، وتغرس شعورا بالانتماء في النفوس.
صحيح أن الإدارة حاولت تصحيح “الخطأ”، وإن كان متأخرًا جدًا. استُبدل الاسم قبل شهور قليلة بـ”شارع السرور”، وكأن السرور يمكن أن يُفرض بالقانون. لكن، شتان ما بين الاسم الجديد وحقيقة الحي الذي يرتع في الفوضى والتهميش. البنايات العشوائية، احتلال الملك العام، غياب الخدمات، ونقص الأمن كل ذلك يجعل السرور غائبًا تماما عن يوميات السكان.
والأغرب أن التغيير الإداري للاسم لم يصل بعد إلى لغة الناس. سيارات الأجرة والحافلات وحتى الخرائط الرقمية لا تزال تشير إلى “زنقة الحشرات”. وإذا اضطر أحد سكان الحي لاستدعاء سيارة إسعاف، فلا مفر له من استخدام الاسم القديم لضمان وصول الطاقم الطبي في الوقت. فلا أحد سيعرف “شارع السرور”، لكنه بالتأكيد سيعرف “شارع أو زنقة الحشرات”.
إن تغيير الاسم على الورق ليس سوى محاولة يائسة لترقيع واقع مرير. كما قال نيتشه: “الأسماء ليست سوى أوهام نسينا أنها كذلك”. والواقع أن تغيير الوهم لا يغير الحقيقة.
ربما علينا أن نسأل أنفسنا، ماذا يعني أن نعيش في مدينة تصف أحياءها بهذه الطريقة؟ ماذا يعني أن تُجبر طفلًا أو شابًا أو حتى شيخًا على حمل هذا العار المجازي كل يوم؟
إن تغيير هذا الاسم ليس مجرد تصحيح إداري، بل هو فعل أخلاقي. إنه إعلان عن أننا مستعدون لأن نرى بعضنا البعض كأشخاص، لا كأرقام في أحياء منسية. وكما قال فرانتس فانون “الكرامة ليست هبة تمنحها الدولة للمواطن، بل هي حق يولد مع الإنسان”.
فلنبدأ من هنا، من “زنقة الحشرات”. ليس بتغيير اسمها فقط، بل بتغيير ما يختبئ خلف الأسماء. فلنمنح سكانها فرصة ليكونوا أكثر من مجرد عناوين في ذاكرة النسيان.