قالت حكومة أخنوش إن تدبير التأمين الإجباري عن المرض سيتم توحيده وسيتم تكليف مؤسسة الضمان الاجتماعي بالسهر على جميع مكوناته. يعرف كل المتتبعين أن هذه المؤسسة لها تاريخ وعلاقات قديمة مع الجسم النقابي. وكانت لها ارتباطات، شبه هيكلية، مع وزارة الداخلية في زمن مضى. وتم اتخاذ القرار الذي أعاد للدولة سلطة القرار، وهيبة مجلس الإدارة. ورغم كل ما راج على مستوى محاسبات قضائية، ظلت نقابة الاتحاد المغربي للشغل تلك القوة الفاعلة في تدبير القرار النقابي. سجلت الساحة الاجتماعية فشل مشروع أراد سحق وتدمير التعاضديات وكل مكتسبات الشغيلة التي صنعت مؤسساتها أول مؤسسة للتأمين الإجباري عن المرض وهي الصندوق الوطني لمنظمات الإحتياط الاجتماعي. ويظل الهجوم على أموال التغطية الصحية خطيرا في ظل تعطيل خدمات المستشفيات العمومية. الأمر خطير جدا ويهم الحق في الولوج إلى العلاجات كحق دستوري. والأمر يزداد خطورة في انهيار فئات اجتماعية أمام تدهور قدرة الفقير، ولو كان اطارا طبيبا في الولوج إلى العلاجات.
يظهر أن هناك تفاهم، تحت الطاولة، سيفضي إلى القضاء على التغطية الصحية بالقطاع العام. لم أكن أرغب في تنبيه النقابات إلى أن مشروع القانون الذي يوجد بين أيدي البرلمان، والذي سيمحي الكنوبس من مشهد تدبير التأمين الإجباري عن المرض، يتطلب حضورا نقابيا كبيرا وشفافا. هناك قضايا خطيرة تتطلب الحذر والحيطة والنقاش المهني لمشروع القانون 23 -54 الذي قد يتم تمريره بسرعة كبيرة ومضرة بحقوق ملايين المؤمنين لدى الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي.
يجب على كل الأحزاب ألا تستسهل خطورة التعامل التقنوقراطي مع إحدى أهم القضايا الاجتماعية. سوف يتم نقل تدبير تأمين يهم أكثر من 3،6 مليون من موظفي القطاع العام، وذوي حقوقهم، والطلبة، وضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إلى نظام قد يحرمهم من مستوى حقوقهم في الولوج إلى العلاجات. ومن المعلوم أن نسبة التغطية المعمول بها في الصندوق الذي يدبر القطاع العام محددة بمرسوم. وستظل خطورة تراجع خدمات هذا الصندوق جد محتملة بعد تمرير مشروع القانون 23-54. وآنذاك سيزيد حجم المؤمنين غير القادرين على تسبيق مصاريف علاجهم. وستزداد قوة الضغط على الكثير منهم لكي يصبحوا خارج منظومة العلاجات. وهذا ما تريده منظومة السيطرة التامة لتقنوقراط لا يهمهم سوى الدفاع عن ليبرالية هوجاء.
الأمر خطير جدا وقد يؤدي إلى احتقان اجتماعي كبير. تعتبر الحكومة أن إصلاح التغطية الصحية لن يتطلب سوى عمليات محاسباتية لتوحيد مؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض. ويعتبر وزراء هذا الزمن أن القرار ذو طبيعة مالية فقط. ويظل معظمهم، من حاملي خطاب احتقار السياسة، واعتبارها غير ذات أهمية، يظنون أن الشأن العام يشبه شأن أسرة تحتاج إلى رب يدبرها كما يشاء. الأمر أكبر من تصور دخلاء على الشأن العام. وحين ستشتعل القضية الاجتماعية سيختفون ويلوذون بمواطن الإفلات من المحاسبة.
تتكلم الحكومة بمنطق تغيير تدبير مؤسساتي بتدبير يستنسخه، دون أن يتم الكلام والقرار عن المشاكل الحقيقية، والتي تتسبب في اضعاف الكفاءة المالية لمؤسسات تدبير التأمين الإجباري عن المرض. وهذا الاضعاف يمس الأسرة والمواطن والقدرة المالية على مواجهة المرض. يتكلم بعض الوزراء، بكثير من التحفظ والخجل، عن الفضيحة الكبرى المتعلقة بأسعار الدواء والمستلزمات الطبية ببلادنا. قال وزير الميزانية أن سعر الأدوية في بلادنا يزيد على 300% بالنسبة لكثير من الدول وللتذكير فإن السيد الوزير لقجع يعرف، منذ سنين، كل تفاصيل أسباب تدهور التوازنات المالية للصندوق الوطني لمؤسسات الاحتياط الاجتماعي، ومن ضمنها تسقيف المساهمات وضرورة مراجعة نسب الاشتراكات حسب مستويات الرواتب في القطاع العام. وتصل نسبة ارتفاع أسعار الأدوية، حسب بعض ذوي الاختصاص، إلى 1000%.
الفرنسي والألماني والسويسري والإسباني والسعودي والكويتي وغيرهم يستفيدون من أسعار أقل بكثير مما يدفعه المواطن المغربي للصيدلي ولشركات ومخزني الأدوية ببلادنا. الأمر يزداد استفحالا حين يتعلق بالأسعار الحقيقية للعلاجات والتحليلات وكافة أنواع الصور بالأشعة.
تعلم الحكومة باليقين التام أن ما يسمى بالأسعار المرجعية الوطنية المجمدة منذ سنين، لا علاقة لها بالأسعار المطبقة في العيادات والمصحات الخاصة ومراكز التحليلات الطبية. وقد يتراوح الفرق بين الأسعار بين الواقع والأسعار التي يتم على أساسها تعويض المؤمنين، بين 50% و100%. التوازنات المالية تتدهور بفعل من يتحكم في أسعار الأدوية والاستشارات الطبية والتحليلات والأشعة. ولا تحرك الحكومة ساكنا. وحين تنتبه إدارة الضرائب إلى حجم مداخيل بعض المصحات والعيادات ومراكز التحليلات وغيرهم، تنتفض بعض اللوبيات لتبرير التهرب الضريبي والتأكيد على أن القطاع الخاص يشغل الكثير من اليد العاملة. وهذا التبرير هو نفسه الذي يستعمله بعض أرباب صناعات ومستوردي الأدوية في بلادنا. وهنا يجب أن نستخدم لغة الأرقام وتقديم المداخيل الحقيقية لأصحاب مؤسسات القطاع الخاص ومعاملتهم كباقي الملزمين ضريبيا.
أكدت وثيقة للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي وللإدارة العامة للجمارك أن المنافسة لا توجد في مجال عرض الأدوية. وأكدت الإحصائيات الجمركية تجاوز سعر كثير من الأدوية المستوردة لسعر الاستيراد بنسب كبيرة جدا. وأشارت كل التحليلات والأبحاث إلى أن الأدوية الجنيسة لا تلقى أي تشجيع رغم كونها تخضع لكل مقاييس الجودة. ويمكن التساؤل حول غلاء الأسعار من خلال السبب في الأرباح الكبرى التي تستفيد منها بعض المؤسسات بدون أي سبب. هناك لوبي، له امتدادات كبرى داخل دوائر القرار، يحرم المغاربة من أسعار يستفيد منها المواطن الفرنسي وتحرم الاستفادة منها على المواطن المغربي. وجب البحث عن المستفيد من غلاء الدواء. ولا شك أن لوبي الدواء ينتمي لنفس الاقلية من أسعار اللحوم والبنزين والغازوال والغاز. حرام أن يتكلم أصحاب الخطاب عن الدولة الاجتماعية في ظل واقع يخضع لقرار أصحاب مقاولات استيراد الدواء لقهر المواطن واستنزاف قدرته الشرائية.
قالت الحكومة في مخاطبتها للبرلمان أن كل الضمانات أعطيت لكي لا يتم الإضرار بحقوق المؤمنين لدى الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي. وقدمت هذه الحكومة صفحتين في توجهها للمشرعين معتبرة أن توحيد تدبير التأمين الإجباري عن المرض لا يعني توحيد التعامل الموحد بين القطاعين العام والخاص. الحكومة التزمت أمام البرلمان أن حقوق العاملين بمؤسسة كنوبس سيستفيدون من حقوقهم المكتسبة، وأن جميع المؤمنين سيستمرون في نظام يضمن لهم عدم ضياع حقوقهم ونسبة تغطية مصاريف علاجهم. وأكدت هذه الحكومة أمام البرلمان على الدور المركزي للتعاضديات في مجال دعم العرض الصحي ومساهمته في تقوية تقديم خدمات تدعم تحسين الخدمات وتقريب التأمين الإجباري عن المرض من ملايين المستفيدين من التعاضد، بما فيها، ذوي الحقوق. ولكن ما جاء في مشروع القانون 23-54 لا يترجم ما جاء في خطاب الحكومة للبرلمان. لا توجد أية إشارة إلى ضمان نسبة تغطية المصاريف الطبية، كما لا توجد أية ضمانات على سبل الحفاظ على التوازنات المالية لنظام التأمين الخاص بالقطاع العام. وقد تأكد أن المدبر الوحيد المقبل للتأمين الإجباري عن المرض سيتعامل مع المؤمنين في إطار عدم خلط أموال الأنظمة المتعددة التي سيديرها. وهنا تصمت الحكومة عن آليات توازن الأنظمة وكيفية تمويل عجزها المالي المراقب.
سوف نشهد انتقالا في منظومة تدمير، عفوا تدبير التأمين الإجباري عن المرض. وسيظل سؤال الحقوق المكتسبة مطروحا على طاولة الحوار، وسيظل سؤال الضمانات الحكومية ذلك الغائب الكبير في نص مشروع القانون. أغلب البرلمانيين لا يهمهم مستقبل التأمين الإجباري عن المرض، ولا يعنيهم من سيتضرر من نسبة تغطية مصاريف التي ستضعف قدرتهم على مواجهة تكاليف العلاجات الغالية جدا. مشروع القانون الذي يطبخ على نار الأسعار المضطربة لا يضمن أي حق مكتسب. وإن لم تتحرك النقابات قبل فوات الأوان، فعلى كل النقابات السلام. وآنذاك سيبارك الجميع كل شكل نضالي جديد، ولو كان تنسيقية أو جمعية أو أية حركة اجتماعية لا تعترف بالمنظمات التقليدية ذات ماض فقط.
أعلم أيها الذي يظن أن مستقبل تأمينك الصحي بين أيدي أمينة، أنك تحلم بغد يعوم في سراب. حكومة بلادك ستجعلك في موقع الضعيف والباحث عمن سيعينك على الولوج إلى العلاجات. كنت تشتغل في إدارة عمومية، انتميت إلى تعاضدية، وأسست هذه الأخيرة، إلى جانب تعاضديات أخرى، مؤسسة عمومية هي الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي أو ما يعرف بكنوبس. وكانت هذه المؤسسة أولى مؤسسات التأمين الإجباري عن المرض. ودارت الدوائر بكل منظومتنا الصحية والتأمينية عن المرض لتصل إلى فتح الحكومة باب تفويض التغطية الصحية إلى القطاع الخاص وسلعنة الولوج إلى العلاجات. المهم هو كسر وتدبير كل آليات وتاريخ التضامن بين الأجيال وتعويض التضامن بنظام رأسمالي لا يخضع إلا لقانون العرض والطلب. وبعد هذه السيطرة على مجال التغطية والولوج إلى العلاجات، فليأتي طوفان أصحاب المال، وليقضي على كل أشكال التعاضد والتضامن والاقتصاد التضامني الاجتماعي وكل مؤسسات التعاضد التي تجاوز عملها التضامني قرنا من الزمن.
نعم يجب تطوير العرض الصحي. ولا يمكن أن يقود هذا الورش الكبير غير مؤسسات الدولة العاملة في القطاع الصحي. ويجب أن نعتبر العرض الصحي للقطاع الخاص مجرد مكمل لدور الدولة وليس الفاعل الأساسي في تطوير خدمات صحية في كافة أرجاء الوطن. لا يأبه هذا القطاع الخاص الذي يستولي على أكثر من 90% من أموال مؤسسات التأمين الإجباري عن المرض، بالقرى والأحياء الهامشية وكل مراكز المدن الصغيرة لأنها لا تشكل موقعا للربح ولا لتراكم الثروات.
و يبقى السؤال هو” من المستفيد” الأكبر من اقتصاد مبني على الريع، وعلى الهيجان العقاري، وعلى الهجوم على كل المجالات الغابوية، وبالطبع على اعتبار الصحة والتعليم، مصدرا لمراكمة الأرباح. وللتذكير، فقد أظهرت عمليات تحويل مخازن الأموال إلى النظام البنكي أن كل فئات الأوراق المالية لها أثر على مكونات الكتلة النقدية، وبالتالي على تجاوبها مع مقتضيات ” نظام بازل 2″ الذي يحدد مستوى حجم القروض إلى المقاولات.
وسيظل مستوى الانتظارات في مجال التأمين الإجباري عن المرض الخاص بالقطاع العام محل انتظارات يجب تضمينها في مشروع القانون23 -54. التزامات الحكومة مسجلة، ولا يمكن التنكر لمحتواها. وكل تنكر سيخلق مزيدا من الأشكال الرافضة لأشكال الحوار الاجتماعي الكلاسيكية الحالية. نشهد بكثير من الأسف انهيار الكثير من مؤسسات الوساطة الاجتماعية. وفي انتظار تحسين مستوى الخدمات الصحية وأنظمة التغطية الصحية، يتزايد حجم القطاع الخاص المسنود بتطويع للسوق المالي، ويتم تهميش الأنظمة التضامنية والتعاضدية. وحذاري، حذاري من آثار الهجوم على الحقوق المكتسبة وكل مكتسبات الاقتصاد الاجتماعي وعلى رأسها مكتسبات القطاع التعاضدي ونسب تغطية المصاريف المرتبطة بالولوج إلى العلاج. قالت الحكومة أنها ستوحد أنظمة تدبير التأمين الإجباري عن، وأكدت أن هذا التوحيد لا يمكن أن يمس الحقوق المكتسبة للمؤمنين الحاليين طبعا. ولكن المنخرطين الجدد سيخضعون لكل أشكال التعامل التقنوقراطي حسب آليات السوق. ويمكن للدولة الاجتماعية أن تحارب الريع والفساد لكي تتمكن من اكتساب تلك الشرعية التي لم تحصل عليها بعد.
وفي انتظار كل هذا، تم اتخاذ القرار بالقضاء على أول مؤسسة لتدبير التأمين الإجباري عن المرض، وعلى التعاضديات وعلى كل أشكال الولوج إلى العلاجات من خلال مؤسسات الاقتصاد التضامني والاجتماعي. وعند ألله تحتسبون. وستظل المحاسبة على الأرض آتية لا شك فيها إذا تغلبت آليات المحاسبة على تقاليد المحاباة. ستظل التوازنات المالية على كف ” عفريت” في غياب قرار يعطي للدولة الاجتماعية شهادة ميلاد. شكل ميلاد المشروع الملكي الإستراتيجي الخاص بالتغطية الاجتماعية نقلة حقوقية كبرى. وسيظل تنزيل هذا المشروع، حسب أهدافه الأصلية، هو المعيار لإنصاف المواطن المغربي في المداشر والقرى والأحياء الشعبية والمراكز الحضرية من طنجة إلى لكويرة.
“سلعنة” الصحة وأسعار الأدوية وتكلفة العلاج تفوق بكثير قدرة المواطن
حرب على التغطية الصحية في بلادنا.. من المستفيد؟
