في الذكرى الأربعينية لرحيل محمد بنسعيد آيت يدر اخترنا في “نيشان” أن نقدم مقتطفات هامة من مذكراته التي صدرت عن مركز محمد بنسعيد آيت يدر للأبحاث والدراسات تحت عنوان “هكذا تكلم محمد بنسعيد” والذي القيادي اليساري والكاتب عبد الرحمان زكري، باعتبار الأحداث الهامة التي عايشها الراحل بنسعيد الذي عاشر ثلاثة ملوك، وكان في قلب الأحداث اللاهبة منذ الخمسينيات من القرن الماضي حتى وفاته،لعب دورا أساسيا في خلايا المقاومة وجيش التحرير، انخرط في حزب الاستقلال باكرا، وكان من أقطاب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حكم عليه بالإعدام غيابيا وتعرض لأكثر من محاولة تصفية واغتيال، حتى تأسيسه لمنظمة 23 مارس وبعدها منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وصولا إلى الحزب الاشتراكي الموحد.. في مذكرات نصادف أحداثا ووقائع مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر باستعادتها ومحاولة تجديد قراءتها فهم لواقعنا السياسي ولمسار أمة تطمح لحقها في الكرامة والتقدم والتنمية.
الحلقة الخامسة عشرة:
هكذا تسللت من البوليس ودخلت الجزائر هاربا
تسللت إلى الجزائر في 8 دجنبر 1962 فارا من مطاردة البوليس المغربي لي. كنت في الدار البيضاء وكان البحث جاريا عني من أجل اختطافي. فالنظام الذي كان يحس بأن شيئا ما يتم تدبيره في الخفاء، ارتأى أن يستبق، وذلك بأن يختطف عددا من قيادات حركة التحرير حتى يعرف من أفواههم ما يهيئونه في السر تحت وطأة التعذيب والاستنطاق.
لذلك قر قراري على الخروج من المغرب حتى تهدأ الأوضاع فأعود. كما أن الحملة النقدية الشرسة التي واجهنا بها دستور 1962 الممنوح أغضبت نظام الحسن الثاني. فقد كنا نستعمل قاموسا ذا حمولة نقدية قوية، من ذلك مثلا نعتنا للنظام بالفردي والإقطاعي والمستبد. سافرت سرا من الدار البيضاء إلى وجدة، ثم عبرت إلى وهران وبقيت هناك إلى غاية مارس .1963
كانت عودتي إلى المغرب بهدف واحد هو المواجهة أو على الأقل الحضور مع رفاقي في الجبهة. وقبل أن يقع ما وقع مما سمي ب”مؤامرة يوليوز 1963″ عرفت عبر مصادري الخاصة بقرار الاعتقال. كان الحسن الثاني سيسافر إلى باريس حين طلب منه الدليمي أن يسمح له بمباشرة الاعتقالات. إلا أن الملك طلب منه إرجاء ذلك حتى يعود من سفره. أخبرت الفقيه البصري طالبا منه بإلحاح أن يغادر المغرب حتى لا تطاله يد البوليس. لكنه امتنع قائلا لي إن له اتصالات لا يمكنه أن يتركها ويخرج. وفعلا، ما إن عاد الحسن الثاني من فرنسا في السادس عشر من يوليوز حتى أصدر أوامره بشن حملة اعتقالات لم توفر أحدا، من الضالعين في العملية، كما من الأبرياء، وما كان أكثرهم.
وقد تم استغلال اليوم الذي اختاره الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للقيام بلقاءات وتجمعات في جميع أنحاء المغرب من أجل الدعوة إلى مقاطعة انتخابات المجالس البلدية. وقع ماكنت أخشاه، إذ تم اعتقال الفقيه البصري وعمر بن جلون وحكم عليهما معا بالإعدام. ونظرا لأني كنت قد خرجت إلى الجزائر مرة ثانية، فقد كان مصيري مثل رفاقي وحكم علي أنا أيضا بالإعدام لكن بشكل غيابي.
لم يكن التنظيم على درجة من الإحكام، إضافة إلى أنه كان يفتقد إلى رؤية استراتيجية تؤمن له سبل تدبير المواجهة. نعم، كانت ثمة رغبة في الإتيان ببديل، أما ما هو هذا البديل… وأما ماهي ملامحه، وماهي وسائل بلوغه… فكانت كلها أمور في حكم الغائبة أو المغيبة. والحقيقة أن الطريقة التي كُشف بها التنظيم، وما تميز به من تهلهل وعدم نضج دفعاني، وأنا بالجزائر، إلى مراجعات في الطريق الذي كنا نسير فيه.
هذا العنف، حتى لو كانت غاياته في الذهن نبيلة، هل يمكن أن يمثل حلا،ّ أي سبيلا إلى بناء حالة مضادة له خاصة، عندما يكون بهذه الطريقة التي تشتغل بها مجموعة صغيرة في إطار من السرية، وبانفصال تام عن الجماهير الشعبية وعن قواعد الحزب وأطره؟ من يضمن ألا تتحول هذه “الوسيلة” إلى “نهج” و”غاية” في حل الخلافات، ليس فقط مع معسكر الأعداء والخصوم، بل أيضا داخل المعسكر الذي يحمل وينشد البديل؟ وهل يمكن أن يفضي كل ما وقع، إلى غير ما أفضى إليه؟
في الجزائر، وجدت نفسي مسؤولا من جديد عن مشاكل اللاجئين المغاربة. كان ثمة معسكر للتدريب على استعمال السلاح. ولم أجد بدّا، رفقة مولاي عبد السلام الجبلي، من تفكيكه. لقد كان صورة للفوضى في التعاطي مع قضايا كبيرة ومصيرية؛ حشد من المغاربة الذين يمارسون التجارة وبعض الأعمال الصغرى بوهران، ومن آخرين استقدموا من تيندوف… وجميعهم لا وعي سياسي لهم وليست لهم دراية بأبجديات الصراع القائم بين حركة التحرير الوطني وبين الاقطاع والاستبداد والتبعية …هل بمثل هكذا تنظيمات يمكن خوض الصراع؟