كيف تحولت حركة تحرير إلى حركة انفصال؟ كيف التقت مصالح أنظمة خارجية في رعاية بوليساريو؟ هل لا زالت بوليساريو نفسها غداة انطلاقها أم أن البنية السكانية ذاتها لسكان المخيمات أفرغت من البعد الثقافي والديمغرافي المعتمد لمفهوم السكان الصحراويين؟ كيف فقدت جبهة بوليساريو استقلالية القرار وتحولت إلى مجرد لعبة بيد حكام الجرائر؟
بعد 45 سنة من التيه، و29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات “الثورة” و”الكفاح المسلح” و”الشعب الصحراوي” واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية (مخيم العيون، مخيم الداخلة، مخيم أوسرد…)، أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، لذلك أصبحت الاحتجاجات والانتفاضات قوتا يوميا في مخيمات تندوف حتى في ظل التسلط العام لقيادة الجبهة التي لم يعد ممكنا أن تستمر في المتاجرة على حساب بضعة آلاف من السكان في حقهم في العيش الكريم وبحرية.. هذه التحولات اليوم فرضت مقاربة أخرى هي ما حاولت هنا أن أعالج بقد أكبر من التجرد والحيادية.
تقرير المصير.. الضحية والجلاد
عندما نال المغرب استقلاله، كان قد قرر مصيره بطريقة تختلف عن تلك التي لجأت إليها الجزائر، من جهة لأن الأمر كان يتعلق باستمرار سلطة رمزية للدولة في شخص ملك البلاد، ومن جهة ثانية لأن الكفاح الذي خاضه الشعب المغربي برمته، التقى عند هدف واحد، يكمن في ربط الاستقلال بشرعية عودة الملك الراحل محمد الخامس بعد أن نفته الإدارة الاستعمارية الفرنسية إلى مدغشقر في 20 غشت 1953.
غير أن اللافت في التجربة المغربية أن مظاهر النضال السياسي والمقاومة المسلحة التي قادتها الحركة الوطنية كانت تتم بتنسيق كامل مع العرش، لأنه يرمز إلى وحدة الأمة وحرمة استقلاليتها، وقد شملت المقاومة المسلحة كل أجزاء التراب الوطني، بما في ذلك أقاليم الساقية الحمراء ووادي الذهب التي كانت واقعة تحت النفوذ الاستعماري الإسباني.
خلاصة ذلك أن تقرير المصير الذي قاد إلى إلغاء معاهدة الحماية والدخول في مفاوضات أدت إلى الاستقلال، الذي لم يكن كاملا، طالما بقيت أجزاء محتلة في الشمال والجنوب حُررت غالبيتها على فترات، ارتكزت على رمزية العرش، تماما كما استند الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في لاهاي إلى روابط البيعة والولاء بين سكان الجنوب والعرش المغربي، لتأكيد الحقوق المشروعة للمغرب في أقاليمه الجنوبية.
لم يكن الأمر بهذه البساطة في قضية الصحراء، تحديدا، بسبب أن اتفاقية مدريد نفسها لم تخرج عن نطاق تسليم الإدارة الإسبانية إلى المغرب، ولم يكن في وسع إسبانيا أن تسلم سيادة لا تملكها أصلا.. غير أن تسليم الإدارة، إذ يتوازى وأنواع الانتفاضات المسلحة لأعضاء المقاومة وجيش التحرير في الأقاليم الجنوبية، والزحف السلمي لإخوانهم في الشمال عبر المسيرة الخضراء في السادس من نوفمبر 1975، استنادا إلى الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، يصبح الأمر أكثر قوة وإلزاما من أي استشارة شعبية لتقرير المصير.. طالما أن الفرع عاد إلى الأصل، والنزاع الذي كان قائما بين المغرب وإسبانيا آل إلى جلاء الاستعمار.
بيد أن تصديق الجماعة الصحراوية برئاسة الزعيم الصحراوي خطري ولد سعيد الجماني اعتبر بمثابة تكريس لذلك التحول الذي أعاد الأقاليم الصحراوية إلى طبيعتها التاريخية والقانونية.. ومن الغريب أن وضع الجماعة الصحراوية هذه كان يُنظر إليه في إسبانيا أنها تمثل إرادة السكان، إلا أنه بعد انسحاب الإدارة والجيش الإسبانيين، أعيدت صياغة مبدأ تقرير المصير الذي كان يتم استخدامه في كل حين وفق الأهواء والمصالح، وليس وفق المبادئ.. وتلك عقدة المستعمر الذي يظل يمثل دور الضحية بعد فرض واقع الاستقلال والتحرر من ربقة المحتل، لأنه يريد استعادة وجهه البشري بالتباكي على الجرائم التي خلفها، كما لو أنه يريد تحويل ضحيته إلى جلاد.
عندما يصار إلى تحديد مفهوم تقرير المصير في قضية الصحراء، كأسلوب للتعبير عن الإدارة، تغيب معطيات هامة، وفي مقدمتها الجهة التي كانت منذ البداية وراء طرح المسألة على أنظار الأمم المتحدة، أي المغرب باعتباره المعني أساسا بتقرير المصير، بمعنى أن أي استشارة للتعبير عن الإدارة يجب أن يشارك فيها مجموع الشعب المغربي، أما الاقتصار على سكان الأقاليم الجنوبية وحدهم، فإن ذلك يعتبر تكريسا لواقع أن تقرير المصير لن يكون ناقصا فقط، وإنما يلتف على جوهر القضية التي تعني كافة مكونات الدولة المغربية، خاصة الساكنة المنحذرة من الأقاليم الصحراوية الذين هاجروا تحت ظروف الحرب أو الاستعمار أو غيرهما نحو الشمال.