وراء التفاصيل التي حفلت بها حكاية شباط داخل حزب الاستقلال تختفي شياطين كثيرة منذ صعوده للأمانة للعامة، مرورا بخروجه المثير من الحكومة، وصولا إلى الانقلاب الذي قاده على نفسه.
حدث ذلك بعد أن أعلن في ليلة واحدة رحيله من المعارضة، ومساندة حكومة لم يدخر جهدا في اتهامها لشهور طويلة بالكذب على المغاربة، ليصبح الحزب بعد كل ما وقع ملزما بدفع فاتورة باهظة، كثمن لسلسلة مترابطة من الأخطاء السياسية القاتلة.
عدد من المتتبعين يؤكدون جزما أن ما رشح من معلومات حول حقيقة ما حدث في تلك الليلة الغامضة لا يكشف كل الحقيقة، وأن هناك أسرارا وضعت في علبة سوداء بمفتاحين، أحدهما يملكه حميد شباط باعتباره لاعبا أساسيا في ما وقع، والمفتاح الثاني تائه في تشعبات الدولة التي أصبحت ترى في هذا الأخير شخصا غير مرغوب فيه، وهو ما يفسر الخروج غير المسبوق لوزير الداخلية السابق محمد حصاد، الذي كشف عن «جريمة سياسية» وُجهت أصابع الاتهام فيها لشباط، وكان عنوانها “ابتزاز الدولة” ما فرض على الأخير الهروب لتركيا بعد أن فقد قبعة الحزب، وقبعة النقابة، وصار عاريا إلا من الأسرار التي يملكها.
ورغم أن مصادر مطلعة كشفت أن بداية نهاية شباط انطلقت بعد لقاء جمع بين شباط وقياديين في «البام»، فإن أسماء عايشت المرحلة ترى أن التفاصيل التي تساعد في استجلاء ما حيك في الكواليس لن تظهر، وسيظل جزء كبير منها طي الكتمان، وأن المسلسل الذي أطاح بشباط كإحدى الأعراض الجانبية، انطلق قبل الانتخابات بمدة طويلة وقبل الربيع العربي.
شباط “الكامياكاز”
نفس المصادر ترى أن ما حرك شباط للقيام بخطوته «الكاميكازية» التي نفض فيها يديه من صفقة “جي8” هو علمه بالخيانة التي تعرض لها ، وتحديدا من حزب الأصالة والمعاصرة الذي لجأ إلى حزب التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، وترك شباط دون دعم في ما يتعلق بالجهة، علما أنه كان يراهن على رد الجميل بعد خروجه من الحكومة، ودخوله في مواجهات مفتوحة مع بنكيران.
شباط في الواقع كان يراهن على دق أبواب المخزن من أجل مساعدته في البقاء لكنه أخطأ الرهان، وهو ما جعله يقدم على قرار شكل انتحارا سياسيا، بعد أن تحكمت فيه ردود الفعل والانفعالات.
ما ساعد على ذلك هو شخصنة حزب الاستقلال، واختزاله في شخص شباط، الذي اتخذ القرار ليلا بحضور خمسة أعضاء من المكتب التنفيذي، قبل إبلاغه للباقين بالهاتف، الأمر الذي يعطي صورة واضحة عن سيكولوجية شباط التي تخلط بين المصلحة الشخصية والحزبية، وهو ما يفسر أيضا الأخطاء الكارثية التي ارتكبت انطلاقا من قرار الخروج من الحكومة.
بصمات “البام”
حاليا الحزب لايزال يعيش تحت وقع هزات ارتدادية خلفها الزلزال الذي أحدثه التخلص من شباط بفعل قرار حرص عدد من صقور الحزب على ترك مسافة منه، وعبروا بشكل صريح عن عدم رضاهم عما وقع.
قرار عبد الطريق لشباط كأمين العام كي يغادر الحزب من النافذة، بعد أن دخل لمنصب الأمين العام من نافذة أخرى، حيث انفض من حوله عدد ممن ساندوه في مرحلة سابقة، ليجد نفسه محاطا بنخب من الدرجة الثانية داخل الحزب، بعد أن ارتكب سلسلة من الأخطاء الكارثية وأحدث عدة ثقوب في سفينة الحزب بفعل حسابات خاطئة.
ولعل من حسنات ما حدث مساعدة عدد من المتتبعين على فهم بعض الأسرار الصغيرة التي رافقت خروج شباط من حكومة بنكيران بعد الرهان على اكتساح «البام» للجماعات والجهات، والتخطيط للمضي قدما بتنسيق متين نحو انتخابات 2016 ، على أساس أن تكون حصة الأسد لحزب الميزان بعد «البام».
لكن الحسابات تبين أنها كانت مفرطة في عدم الواقعية السياسية، ليجد شباط نفسه متجاوزا بعد انتخابات 4 شتنبر، مع التحالفات التي نسجها «البام» بكل هدوء مع الأحرار والحركة الشعبية، ليتضح أنه الرابح الأكبر من لعبة المعارضة التي خسر فيها شباط كثيرا، بعد توظيفه لجرعات زائدة من الشعبوية التي كان الضحية الوحيد لها.
ولأن التاريخ أحيانا يأبى أن يعيد نفسه، فإن شباط كان يظن، قبل حراك 20 فبراير، أن السلطة ستكون في يد الأصالة والمعاصرة، لأنه جرت العادة أن تُسلم لكل وافد جديد، تماما كما وقع مع حزب التجمع الوطني للأحرار حين ولادته، ومع الاتحاد الدستوري، لكن 20 فبراير خلطت جميع الأوراق، ووجد شباط نفسه مجبرا على تغيير الاتجاه ليدخل في حكومة انسحب منها لاحقا بمبررات لم تقنع أحدا، قبل أن يتحول إلى «جوكير» محروق بعد فشله في إضعاف بنكيران شعبيا في لعبة انخرط فيها أيضا ادريس لشكر الكاتب الأول لحزب الإتحاد الاشتراكي.
شباط وبداية النهاية
اليوم يتضح أن الجيل الثالث داخل حزب الاستقلال لازال ضحية التهافت الذي أعقب الإطاحة بشباط والذي جعل الحزب برأسين ووضعه مثل دمية داخل حكومة أخنوش.
والواقع أن مصير شباط الحالي،كان متوقعا و شبه محسوم بعد الخروج غير المسبوق لوزير الداخلية السابق محمد حصاد وتوجيهه تهمة الابتزاز لرجل أصبحت بعض الجهات داخل الدولة غير راضية عن سلوكاته وخطاباته.
ولأن المخزن لا يقطع الألسنة والرؤوس، إلا أنه يتجاهل من لا يرضى عنهم، ويعبد طريق النسيان أمامهم كما كتب واتربوري في كتاب «أمير المؤمنين .. الملكية والنخبة السياسية المغربية” فإن شباط فضل حزب حقائبه بعد أن واجه القوات العمومية بمقر النقابة ثم بمقر الحزب الذي كان يشبهه بالعزيزية قلعة القذافي.
الداخلية ورغم توجيه هذه التهمة الثقيلة لشباط فظلت أن تترك له مساحة للتراجع مادام أن الابتزاز جريمة يتعين تحريك المتابعة بشأنها، إلا أن السلوك السياسي في المغرب لم يصل بعد إلى هذا المستوى، وهو ما جعل خروج حصاد بمثابة رسالة صريحة لا تحتمل الكثير من التأويلات مفادها بداية نهاية شباط بعد تراكمات كثيرة أزعجت جهات نافذة.
عدد من المتتبعين يرون أن حكاية حزب الاستقلال بعد المؤتمر الذي صعد بشباط للأمانة العامة، يلخص سعي جهات لمعاقبة الحزب وتوظيفه من خلال تمكين شخص لا يتمتع بالكفاءة اللازمة لقيادة حزب من حجم حزب الاستقلال، وبالتالي هناك من يؤمن بأن أياد خفية أرادت أن يصل الحزب إلى ما هو عليه علما أن حزب الاستقلال ظل على الدوام حزبا “متعاونا ومخزنيا”.
أسرار مدفونة
في نهاية الحكاية يظل السؤال العالق حول طبيعة الأسرار التي كان ينوي شباط كشفها في ندوة صحفية اعتزم تنظيمها بتركيا التي استقر بها بعد رحليه من المغرب، بعد حديث الحزب عن محاولة استهداف سلامته الجسدية بعد أن سبق ولمح شخصيا لاحتمالية تكرار سيناريو “واد يكم”.
هذا علما أن شباط وظف موقع الحزب لبعث إشارات مزعجة ورصاصات طائشة.
فقبل مغادرة المغرب نشر الموقع الرسمي لحزب الاستقلال يوم 8 فبراير 2017 مقالا تحت عنوان “ماذا يريدون من الأمين العام لحزب الاستقلال؟”، وهو المقال الذي تضمن حسب بلاغ للداخلية، اتهامات خطيرة لجهات لم يسميها بمحاولتها “النيل من السلامة الجسدية لحميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال”، فضلا عن الترويج لمعطيات مغرضة تنتمي إلى قاموس بائد كــــ “الدولة العميقة” و”التحكم في اللعبة السياسية”..وفق الداخلية.
الداخلية قالت أن ما جاء في هذا المقال “مضامين تفتح الباب أمام تأويلات مغرضة”، مؤكدة أنها قامت بتوجيه لوزير العدل والحريات من أجل فتح تحقيق في الموضوع، في إشارة إلى ساعة شباط قد حانت.
في النهاية وبعد كل هذا المسار المتشعب فإن ندوة شباط بتركيا أُلغيت في آخر بعد اتخاذ جميع الترتيبات، وعاد بعدها شباط للمغرب ليبلع لسانه، ويترك أسراره في علبة سوداء ،بعد أن تحول لمجرد سياسي مفلس ومنبوذ، بعد حكاية الجبهة الديموقراطية التي كانت بمثابة رصاصة الرحمة.