كتب غابرييل غارسيا مركيز في مجموعته القصصية “الأم الكبيرة”: “الآن، حلت الساعة التي يستطيع المرء فيها أن يضع كرسيا لصق باب الشارع ويبدأ من البداية سرد تفاصيل هذا الحدث القومي الجليل قبل أن يتسع وقت المؤرخين للحضور”، هو ذا بالضبط ما يجمع بين الإعلام والتاريخ، سبق الإعلام لتوثيق اللحظة بصفتها شاهدا على الواقعة، قبل أن يتمدد الزمن ويستطيع المؤرخ إخضاع الواقعة عينها للغربلة وسبر الأغوار وتمييز الحقائق عن الأحاسيس والحقيقة من الحدوس العامة الملتصقة بها، بما لديه من تصور ومنهج علمي صارم وكفاية علمية ومنهجية ييسرها هذا العلم الضارب في القدم.. لكن هناك الكثير مما يفرق بينهما..
ما يجمع الصحفي والمؤرخ هو البحث عن الحقيقة وتعميمها على الجمهور، الذي يجمعهما أيضا هو الحاجة إلى مناخ الحرية، فالرقابة تحجب الحقيقة، تقدم المعلومة المخدومة والوقائع المنتقاة بعناية الموجه – السلطة.. الذي يجمع الصحافي والمؤرخ هو أخلاق الباحث عن الحقيقة وصدق التعبير عن الوقائع والأحداث والموضوعية والحياد.. أي مقاومة التزييف وتشويه الأحداث وفبركة الوقائع وأعطاب الذاكرة.. وقد زادت سطوة التقنية ووسائط التواصل الاجتماعي في تحقيق تقارب غير مسبوق بين الإعلامي والمؤرخ الذي لم يعد مهتما فقط في الغقامة في الماضي البعيد، فسرعة الزمن، غيرت حتى من فهمنا للماضي، فالواقعة التي بمجرد ما تحدث تصبح جزءا من الماضي الذي يستدعي الاهتمام التاريخي.
لكن ما الذي يفرق بينهما؟
الصحافة هي مرآة المجتمع، هل تتصورون اليوم بيتا بدون مرآة، كيف سنغدو إذا ما تحطمت كل المرايا، كيف سنعرف حقيقتنا، أعطابنا وتشوهاتنا وقوة جمالنا أيضا، هي هذه وظيفة الإعلام. لكن التاريخ هو جمارك الحقيقة الذي لا يسمح بإدخال الحقائق المهربة والعملة المزيفة وباقي الممنوعات والمواد الفاسدة التي بإمكانها تزييف الوقائع وتحريف الأحداث، فالمؤرخ جمركي الحقيقة التاريخية.
ليس الصحافي هو المؤرخ، الصحافي يهتم بالوقائع العابرة، بينما المؤرخ يهتم بالثابت والموجه من الأحداث المفصلية.. فهو باحث يدرس أحداث الماضي للحصول على أكبر قدر من المعلومات التاريخية من المكتبات والمتاحف والأرشيف، والوقائع المكتوبة أو الأحداث المروية، ويغربل المصادر من حيث صدقها أو قربها من الأحداث أو موضوعيتها في الرواية، بينما الصحافي يهتم بالوقائع الجارية والأحداث الراهنة أكثر من غرقه في الماضي إلا في اللحظات الاستثنائية: مرويات المقاومة ومحكيات مناضلي زمن الرصاص، في لحظة انفتاح تاريخي مهد للمصالحة الوطنية بما لها وما عليها.. الصحافي لا يملك نفس الزمن، هناك استرخاء لمفهوم الزمن في دراسة الوقائع وإنضاجها لدى المؤرخ، على عكس الصحافي الملتزم بميثاق عمل وبزمن مضغوط، عليه أن يقدم مادته التي تشغل الجمهور في حينه.. يرى عبد الله العروي أن الصحفي هو “مؤرخ اللحظة”، لذلك يقال عادة إن الصحافيين هم من يكتبون المسودة الأولى للتاريخ، الصحافي محكوم بالتاريخ الفوري الذي
لا زال ساخنا يفور، حيث الأحداث دمها على خدها واحتمالات تأثيرها في ما يلي من وقائع يظل قائما، بينما المؤرخ لا يهتم بإعداد الوجبات السريعة لجمهور واقف على الباب، متلهف إن لم تأتيه الصحيفة في موعدها يغير الموجة أو القناة أو الجريدة كانت ورقية أو إلكترونية، فمهنة المؤرخ أقرب إلى القاضي، يبحث في الأدلة الملموسة وله من الأدوات المنهجية الصارمة ما يسمح له بغربلة الروايات ونقد المرويات السابقة عليه، وتمحيص الوقائع والأحداث عبر بحث مضني.
لأحدد بالضرورة أن الصحافي الذي أقصد هو الصحافي المهني الذي لا تغريه الأموال ولا تخيفه رقابة السلطة وأكبر صديق إليه هو الخبر الموثوق المؤكد من مصادر متعددة لها مصداقية، وليس الصحافي المقنع بزي الصحافي فيما هو يؤدي دور ساعي البريد، كما أن المؤرخ في اعتباري هو المؤرخ المستقل الموضوعي الذي ولاؤه للحقيقة بالدرجة الأولى، لا الذي يخدم هذه الجهة أو تلك، ويصبح تاريخه هو تاريخ لها لا انعكاسا لحقيقة الوقائع والأحداث.
بطء الزمن أو الاشتغال خارج ضغط الزمن يسمح للمؤرخ بملكة أوسع للنقد، للتدقيق في الحقائق التاريخية والبحث في مضان المصادر وباقي الروايات ليصطفي منها الأقرب إلى الوقائع، بينما الصحافي رهين مصادر خبره وانتظارات جمهوره وكتاباته مشحونة بمشاعر اللحظة وبالتوجهات العامة للجمهور المرتبطة بالحدث. اسمحوا لي على هذه القراءة البطنية، فالصحافي أشبه بمعد السوندويتشات، فيما المؤرخ يعد طاجينا متنوعا يطهى على نار هادئة.
يُفترض في المؤرخ سعة الاطلاع ودقة الملاحظة والتشبث بمنهج علمي دقيق وصارم، ولا تهمه الأهواء والمشاعر المحيطة بالأخبار والأحداث.. لذلك فكتاباته أكثر صدقية.. الصحافي محكوم بالسرعة والجاهزية والتبسيط لأن جمهوره متنوع فيما المؤرخ لا يبالي بنوع متلقيه بقدر اهتمامه بقوة الشك لتخليص الوقائع والحقائق من الانطباعات والحدوس ومشاعر الذوق العام الذي يحكم لحظة ما… مهما كان المشترك يجب أن نعي أن الإعلامي لا يمكن أن يعوض أدوار المؤرخ ويقوم بوظيفته، تلك أعتبرها أوهام الصحافة في زمن فورتها التقنية، فالصحافي لا يمكن أن يعوض المؤرخ ولا أن يقوم مكانه، كما نشه
في مرحلة تغول الإعلام واعتقاده بأنه يمكن أن ينوب عن الفاعل السياسي ويقوم مقام المثقف بدعوى تخليه عن وظائفه الحيوية في التنوير، هذا ما أسميه أوهام المرحلة الصحافية التي نعيشها، لكنها إلى زوال.
كل من الصحافي والمؤرخ يستفيدان من بعضهما البعض، الصحافي سند للمؤرخ، الذي يمده بالمكتوب والموثق من الوقائع، ومن كون الصحافي يكون في عين المكان فهو شاهد عيان قريب من ملاحظة الحقائق في مادتها الخام حيث يكون دمها على خدها، عوض أن يجد فقط المرويات الشفهية، إن الكثير مما أنجزته الصحافة الوطنية منذ أواسط التسعينيات حتى العشرية الأولى من القرن الحالي، ساهم في توثيق العديد من الوقائع في زمن سنوات الرصاص من خلال حوارات مع أبرز الفاعلين الذين وافتهم المنية وأنقذ الصحافيون جزءا كبيرا من الذاكرة الوطنية من الضياع، وهو ما شجع حتى الفاعلين على الخروج إلى الإعلام، وتكلف إعلاميون عديدون بإخراج مذكرات هؤلاء الزعماء من مذكرات الرايس إلى مذكرات المهدي العلوي والفقيه البصري ومحمد بوستة والعديد من زعماء اليسار، وازدهرت كتابة المذكرات، بطبيعة الحال نحن نميز بشكل كبير بين كتابة المذكرات الذي تكون أهدافه ذاتية أحيانا فيها طابع نرجسي، مقاومة الموت والرغبة في الخلود والقفز على مواقف الضعف وإبراز مواقف القوة في شخصية الفاعل المركزي.. عن التاريخ الذي هو بحث موضوعي محكوم بالكثير من الصرامة العلمية والمنهجية وقواعد إبستمولوجية بها يتحدد ويكون تاريخا لا راوية أخبار.
كما أن الصحافي يجد ضالته في المؤرخ، إنه سند لقصصه الإخبارية ودليل على البحث والتقصي، وباستعادة ما كتبه ابن رشد في بحثه عن “فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال”، يمكن أن نؤكد أن الوسائط الحديثة قربت جدا ما بين الصحافي والمؤرخ خاصة المهتم بالزمن الراهن بدل الماضي البعيد، لذلك يمكن اعتبار طريق الحقّ طريقًا واحدًا وإن تعددت بين خصوصية العمل الصحافي ومقتضيات البحث التاريخي، وبالتالي فالحقيقة واحدة والحقّ لا يعارض الحقّ، فالحقائق تتعاضد لتكمل بعضها البعض، فقد لعبت الصحافة دورا كبيرا في توسيع فئة متلقي التاريخ، واستغل المؤرخون الصحافة كمادة للملاحظة والتحليل والاستنتاج، وأيضا لطرح منتوجهم وعطائهم، فوق هذا لم يعد التاريخ مجرد سرد للحوادث الماضية في حياة الأشخاص والأمم، ووجدنا صحافيين مورطين في كتابة التاريخ، من لا كوتور إلى محمد حسنين هيكل وسعيد الصافي ومحمد باهي… فعلى سبيل المثال فقد أصدر الصحفي “جاك لاكوتير” سنة 1963 سلسلة “التاريخ الفوري” عن دار سوي، التي فاق إنتاجها المائة عنوان، وصار على دربه صحافيون كبار حتى في العالم العربي، وفي المغرب يبدو الراحل محمد باهي قريب من إنتاج مادة تقع على الحدود بين الصحافة والتاريخ، من هذا الباب أؤكد أن الحق يعاضد الحق ويشهد عليه ولا يناقضه ولا يلغيه، لكن بنفس منطق ابن رشد بكون أن الشريعة لا يمكن أن تحل محل الحكمة، والعكس صحيح أيضا، فإنه لا يمكن أن يحل الصحافي مكان المؤرخ أبدا. لا تجعلوا المسودة الأولى وتاريخ اللحظة، هو التاريخ الذي له قواعد ثابتة، ومنهج علمي صارم يحدد أفق عمل المؤرخ، ولا نجعل التقارب الذي حدث منذ النصف الثاني من القرن الماضي بين التاريخ والإعلام تماهي يسمح بحلول أحدهما مكان الآخر.
ساندويتشات الإعلام وطجين التاريخ
بواسطة عبد العزيز كوكاس