هناك ظاهرة خطيرة تفشت، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، تتعلق بالأقوال المزيفة، التي تنسب إلى كتاب مرموقين، جلّهم ماتوا، ولم يعد باستطاعتهم التصدي للأكاذيب التي تروج بإسمهم. تجد المقولة في إطار مزركش مع صورة المكذوب عليه، كي تنطلي الحيلة على الأغبياء!
الطامة الكبرى أن بعض الطلاب الكسالى يزينون بها بحوثهم، كما يستشهد بها بعض الاستاذة الفاشلين، دون أن يرف لهم جفن. بل حتى في مجال الكتابة والفن، اختلط الحابل بالنابل والمزيف بالأصيل. قبل بضع سنوات، عرضت المغنية اللبنانية كارول سماحة ألبومًا يتضمن اثنتي عشرة أغنية، اعتمادا على قصائد لمحمود درويش، واتضح بعد صدور الألبوم أن واحدة منها، على الأقل، لا علاقة لها البتة مع تراث الشاعر الفلسطيني، بل مجرد جمل ركيكة تروج على الانترنيت، وتنسب لصاحب “الجدارية”… وتدخلت مؤسسة محمود درويش كي يتم سحب اسمه من الألبوم الخفيف، نسبة إلى خفة اليد، لا خفة الروح.
هناك أيضا مقولة شهيرة تنسب إلى فولتير يستعملها كل من أراد ان يقدم نفسه مدافعا صنديدا عن حرية التعبير: “قد أخالفك الرأي لكنني مستعد للموت دفاعا عن حقك في التعبير عن رأيك”. رغم أن مؤلف “كانديد” لم يقل ذلك يوما. المتخصصون فتشوا ما كتبه فيلسوف الأنوار كلمة كلمة ولم يعثروا على ما يفيد أن شخصا ما مستعد للموت دفاعا عن حق من يخالفه الرأي في التعبير! بعضهم يشير إلى أن فولتير كتب شيئا قريبا من ذلك في رسالة مؤرخة ب 6 فبراير 1770، إلى أحد رجال الدين، قال له فيها: “أكره ما تكتب لكنني مستعد للتضحية بحياتي كي يمكنك الاستمرار في الكتابة”، الرسالة متوفرة في الأرشيف، لكن لا أثر فيها لهذه الجملة أيضا. الحقيقة أن من تسبب في الخلط هي كاتبة انجليزية اسمها ايفلين بياتريس هال، نشرت كتابا تحت عنوان “أصدقاء فولتير” عام 1906 واستخدمت فيه تلك العبارة، واضعة إياها بين مزدوجتين، كأن فولتير صاحبها، مما أحدث لبسا أصبح من الصعب تداركه…
في زمن “الفايك نيوز”، لم يعد التحقق من الخبر أو التدقيق في الأقوال والنصوص مسألة مهمة. أهم شيء هو أن تحصل على المشاهدات واللايكات والمتابعين والأدسنس.
مؤخرا شاهدتُ فيديو ل”شيخ” معروف على يوتوب، يستهل مداخلته بالمقولة المنسوبة إلى فولتير وينسبها بدوره الى جان-جاك روسو، مساهما في مزيد من اللبس لدى الآلاف من متابعيه. وقد أدهشتني الوثوقية التي يتحدث بها الرجل، كأنه “لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه”. يخوض في قضايا أكبر منه، تتعلق بالسياسة الدولية، ويتحدث بعصبية شديدة، يصرخ كأنه يملك الحقيقة، رغم جهله المطبق بالمعطيات، ونظرته الساذجة لما يجري في الشرق الأوسط، والرهانات الجيواستراتيجية بالمنطقة. يهاجم إيران وحلفاءها من منطلق عقائدي صرف، في تكريس بئيس للفتنة الشيعية السنية. ولو كانت لديه ذرة فهم لعرف أن أهم خلاصات “طوفان الأقصى” هي إيقاف مشروع الفتنة الكبرى بين الشيعة والسنة، التي أجّج الأمريكيون نارها، لضرب كل مشاريع التحرر من هيمنتهم. من كان يتصور أن يصلي خامنئي الشيعي على جثمان إسماعيل هنية السني؟ وأن تندد الرياض بالجريمة الإسرائيلية على التراب الإيراني؟ لو انتبه صاحبنا جيدا لاكتشف أن ما يتفوه به هو نفس ما يردده أنصار الصهيونية في الغرب، وأن صبّ الزيت على نار الفتنة المذهبية في هذا الوقت بالضبط، يجعل منه ما يسمى ب” “الغبي المفيد”، للمشاريع الاستعمارية والصهيونية التوسعية. المدهش أيضا في خطاب الرجل هي الفجوة بين سطحية التحليل وحدة النبرة، بين سذاجة الأفكار ووثوقية الصوت، مما ذكّرني بمقولة مأثورة عن علاقة الناس بالمعرفة، يصعب التثبت من صاحبها، لكنه يستحق وسام الاستحقاق من درجة حكيم: “الرجال أربعة، رجل يعلم ويعلم أنه يعلم، ذلك حكيم فاتبعوه، ورجل يعلم ولا يعلم أنه يعلم، ذلك ناسٍ فذكروه، ورجل لا يعلم ويعلم أنه لا يعلم، ذلك جاهل فعلموه، ورجل لا يعلم ولا يعلم أنه لا يعلم، ذلك أحمق فاجتنبوه!” واعتقد أن صاحبنا من الصنف الأخير، في السياسات الدولية على الأقل. لذلك يجدر بنا أن نضرب صفحا عما ينشره على يوتوب، سواء في الفيديو الليلي أو النهاري…
قبل ظهور يوتوب، كان الشيوخ يفتشون عن “الأدسنس” في “الطوبيسات”، لن أنسى يوم ركبت حافلة من تمارة الى الرباط، وكان بين الركاب فتيات عائدات من البحر، بملابس صيفية، حين طلع علينا رجل بلحية مشعثة وجلّابة مبهدلة، وقف بين الصفين وشرع في الموعظة غير الحسنة، وترديد بعض الأدعية الركيكة، قبل أن يمر إلى “النهي عن المنكر”، وشتم “المتبرجات” و”الكاسيات العاريات”، مزمجرا وهو يشير بأصبعه الى الفتيات الجالسات في آخر الحافلة … فكّرت أن أوقفه عند حده، لكنني أمسكت أعصابي وانتظرت أن ينهي خزعبلاته وينزل، غير أنه انطلق يحلل ويحرم ويهاجم المرأة بكل ما أوتي من غباء وميزوجينية: “عيد المرأة اللي دارتو هي الشيوعية الحمرا ديال فرنسا”…. هنا لم استطع السكوت، كيف استطاع أن يجمع بين عيد المرأة والشيوعية وفرنسا في سلة واحدة؟ أكثر شيء يغضبني هو الجهل الواثق من نفسه. صرخت في وجهه: آسي محمد باراكا، إما ان تنزل او نطلب لك الشرطة، وضجت الحافلة وانقسمت إلى نصفين: نصف يستنكر كلام الدجال ونصف يدافع عنه ويعطيه نقودا تاكيدا على موقفه، قبل أن يضطر إلى النزول وهو ينظر إليّ شزرا، لأنه يعرف أن “الوقت خايبة”، اذ كانت البلاد لم تستيقظ بعد من صدمة تفجيرات 16 ماي 2003، وكانت السلطات تعتقل كل من “شمّت” فيه رائحة التطرف!
بعيدا عن كل تجريح أو تحريض، أعتقد أن على “الشيوخ” أن يظلوا في تخصصهم، وهو الفقه وما يدور في فلكه، ويتركوا التحليل الجيواستراتيجي لأصحابه. السياسة لها أسس تحليلها وأدوات فهمها، والعلاقات الدولية تخصص أكاديمي وليس مجرد جبهة وصوت مرتفع. كل الذين يتحدثون بكثير من الوثوقية في مواضيع أكبر منهم، ويغلفون كلامهم بالدين، ينبغي الحذر منهم، لأنهم يحرّضون ضعاف العقول والنفوس على الأسوأ، أنسب مكان لهم احيانا هو السجن، مع الأسف، كي ينقصو “فيخرات”، كما حدث لعدد من “الشيوخ” الذين كان يتحدثون بنفس الحماس، في مواضيع حساسة، قبل أن يتحولوا بعد تجربة السجن الى حملان وديعة، يدوِّرُون الكلمة عشر مرات في أفواههم قبل أن يلفظوها!
احذروا الدجالين!
بواسطة جمال بودومة