أغلق الرئيس الفرنسي باب “ماتينيون” في وجه اليسار ووضع المفتاح في جيبه، رغم أن صناديق الاقتراع كانت صريحة، وصفعته حتى تقلصت عضلات وجهه، ومعها كتلته النيابية التي انتقلت من 246 إلى 168 نائبا، بينما احتلت “الجبهة الشعبية الجديدة” المرتبة الأولى ب 182 نائبا، من أصل 577 مقعد في “الجمعية الوطنية”، مما يعني أنها الأَوْلى برئاسة الوزراء، رغم عدم توفرها على الأغلبية المطلقة.
العرف الديمقراطي يقضي بأن يسمي رئيس الجمهورية رئيسا للوزراء من الكتلة الفائزة بالانتخابات التشريعية، وعلى الأخير أن يدبّر أمره مع الأغلبية داخل البرلمان. لكن الفرنسيين ابتلوا برئيس يتصرف بمنطق “أنا ربكم الأعلى”، كأنه فوق المؤسسات!
بعد أسابيع من المماطلة، استقبل أخيرا الكتل البرلمانية ومنها وفد من تحالف اليسار، واستمع إلى مرشحته، لوسي كاستيت، وطرح عليها قائمة من الأسئلة كأنها تجتاز الامتحان، وفي النهاية أصدر بلاغا يقول إنه لن يعيِّنَها في رئاسة الوزراء، بحجة أن الكتل النيابية ستسقط أي حكومة يشارك فيها حزب “فرنسا الأبية”. علماً أن جون لوك ميلونشون، بدهائه السياسي، فضح المناورة، حين أعلن أن حزبه مستعد لعدم تسلّم أي ّحقيبة وزارية… واضعا سؤالا مباشرا على الخصوم: هل تلتزمون بعدم حجب الثقة عن حكومة اليسار في حال ما تشكلت؟ هكذا أخرجهم “من روندتهم” ليتأكد أن ميلانشون وحزبه مجرد ذريعة وأن ما يزعجهم حقا هو برنامج اليسار، وترجمة ذلك أن الأقلية المنهزمة في الانتخابات تريد أن تنفذ برنامجها وليس برنامج التكتل الفائز. تحيا الديمقراطية!
صحيح أن الدستور يمنح للرئيس صلاحية تعيين من يريد رئيسا للحكومة، لكن التقاليد الديمقراطية تفرض عليه أن يختاره من التكتّل المتقدم في الانتخابات. أما تأمين الأغلبية في “الجمعية الوطنية”، فليس من شأن الرئيس، ثم إن ماكرون نفسه سبق له أن عين رئيسا للوزراء من معسكره بعد انتخابات 2022، رغم أنّ تكتله النيابي لم تكن لديه أغلبية مطلقة، لكنه احتلّ المركز الأول، تماما مثل تحالف اليسار اليوم. حلال علينا حرام عليكم!
الحقيقة أن ماكرون يرفض الاعتراف بالخسارة، ويريد أن يلعب الأشواط الإضافية و”البيلانتيات” إن اقتضى الأمر. لكن ذلك لن يجري في الملعب، بل في الشارع وأمام المؤسسات الدستورية: الأحزاب والنقابات اليسارية قررت التظاهر في السابع من الشهر، احتجاجا على خرق العرف الديمقراطي في بلد روسو وفولتير، فيما يعتزم ميلونشون ورفاقه اللجوء إلى آلية عزل الرئيس، التي يتيحها لهم الدستور. رغم أن حظوظ نجاحها ضئيلة فإنها تعكس طبيعة المواجهة غير المسبوقة التي دخلها الصراع السياسي في فرنسا، بسبب تعنّت ماكرون. مما يمكن أن يسفر عن أزمة عميقة، تشلّ مؤسسات الدولة الموروثة منذ 1958، تاريخ تأسيس الجمهورية الخامسة، على يد الجنرال دوغول.
الرئيس الفرنسي يراهن على تصدع اليسار، كي يشكل ائتلافا موسعا حول حزبه، يضمن له أغلبية في البرلمان. منذ البداية لم يتوقف عن مغازلة الجناح اليميني في “الحزب الاشتراكي”، ومازال يراهن على تعميق الشرخ بين مكوّنات “الجبهة الشعبية الجديدة” كي يضمّ قسما من نوابها إلى تحالفه الجديد. المناورة واضحة جدا، وتؤكد أن الرئيس ليس حكَماً بين التكتلات والأحزاب، كما يدّعي، بل طرف أساسي في الصراع، يقود معركة استنزاف مكشوفة لشق صفوف تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة”.
كثيرون في فرنسا يخافون من انحراف سلطوي، يجعل الرئيس يجمع كل السلط بين يديه، وهو ما يسمح به الفصل 16 من الدستور في حال نشوب أزمة عميقة.
وبخلاف ما يعتقد الكثيرون، النظام السياسي الفرنسي يحمل في جيناته نزوعا دوريا نحو السلطوية. عندما نتأمل تاريخ فرنسا منذ ثورة 1789، نستشفّ أن الانفراد بالسلطة رياضة شعبية في تاريخ الجمهورية. عام 1804، سنوات قليلة بعد تقلده منصب القنصل الأول للجمهورية، استفرد نابليون بونابارت بالسلطة، وأعلن تحويل نظام الحكم إلى إمبراطورية، ولو لم ينهزم أمام الإنجليز في معركة “أوستيرليتز” عام 1815 لورّث فرنسا لسلالته كما يفعل أي حاكمٍ مستبدّ. انهيار الإمبراطورية الأولى أعقبته عودة آل بوربون إلى عرش أجدادهم، قبل أن تزيحهم عائلة أخرى عام 1830، وهي ما يعرف بملكية يوليوز، التي استمرت من 1830 إلى 1848، تاريخ سقوط الملك لوي فيليب، إثر ثورة عارمة في الشارع. في تلك السنة ستعلن الجمهورية الثانية بانتخاب رئيس جديد، ليس سوى ابن اخ نابليون بونابارت. لوي-نابليون بونابارت وصل الى السلطة عبر الاقتراع كرئيس منتخب، لكن نزعة الاستفراد بالسلطة جعلته يعلن الامبراطورية الثانية عام 1852، تيمنا بعمّه. وقد عارضها بقوة عدد من النواب على رأسهم برلماني شهير اسمه فيكتور هوغو، تحمّل المنفى كي يقود معركة تحرير فرنسا من الاستبداد، وحين كان يسأله أحد متى يعود إلى بلاده كان يرد: “عندما تعود الحرية!”
هكذا قضى مؤلف “البؤساء” تسعة عشر عاما في المنفى وكتب أجمل مؤلفاته هناك، بالإضافة إلى كتاب ناري ضد الامبراطور الانقلابي، سماه “نابليون الصغير”. وكان نابليون الثالث، مثل عمه، بحاجة الى هزيمة عسكرية كي يسقط عن عرش الامبراطورية عام 1870، بعد معركة “سودان”، التي أسفرت عن ميلاد الجمهورية الثالثة التي ستستمر حتى عام 1940، بعد الهزيمة المدوية أمام الألمان واستلام رجل عسكري هو الماريشال بيتان مقاليد السلطة قبل أن يحلّ البرلمان ويستفرد بالسلطة. ليأتي شارل دوغول ويعيد الاعتبار مجددا للجمهورية، بعد تحرير فرنسا عام 1944، ليؤسس فيما بعد الجمهورية الخامسة، التي تحتضر الصوم بين يدي إيمانويل ماكرون.
الانفراد بالسلطة!
بواسطة جمال بودومة