من لمْ يتأثرْ حدَّ الدموع وهو يرى مئاتِ اليافعين والشباب يرمون بأنفسهم في البحر، قبالة سبتة السليبة، لا قلبَ له.
أعترف أنني انهزمت أمام تلك المشاهد المؤلمة.
هي لم تكن – فقط – مجموعاتِ شبابٍ طفح به الكيل
هي لم تكن – فقط – أطياف يافعين فقدوا كل أمل في بناء مستقبل مغاير في مرابع طفولتهم
هي لم تكن – فقط – صفوفا ترتمي في لج البحر جماعاتٍ ووُحدانا
هي لم تكن – فقط – زُرافاتِ هاربينَ من ضبابِ وطنهم نحو مجهول الموج
هي كل ذلك وأكثر
هؤلاء اليافعون وأولئك الشباب
هم أسراب أحلامنا تُنتزع منَّا وتلقي بنفسها نحو مهوى سحيق لا تَعرف ولا نعرفُ مداه
هي أمانينا تتمرد على انسداد الأفق والاختناق والفقر والعوز الاجتماعي الذي يخنق أنفاسها بلا رحمة
هم آمالنا الغضة تنتفض ضد سوء التدبير القاتل وتفاهة المتنفذين
هم ملايين اليافعين الذين لم ينعموا لا لتعليم ولا بتكوين ولا بمهنة ولا بمستقبل
هم أجمل ما فينا: أطفالنا ينتفضون ضد اضمحلال قيم ومرجعيات العيش المشترك لدى أغلب الفاعلين المتنفذين في طبقتنا السياسية،
ضد ألاعيبهم من أجل الكسب غير المشروع على حساب الناس البسطاء،
ضد شرائهم أصوات هؤلاء لدى المهازل المسماة “انتخابات” والتي لم تعد تستقطب حتى 10 في المائة من الناخبين
ضد العجرفة التي يُعاملون بها بسطاء الناس، أولئك الذين لم يعودوا يجدون ما يسد الرمق
ضد الامتيازات التي يحرصون عليها في بلد وصل فيه معدل البطالة أرقاما خيالية
ضد تراميهم على مختلف المغانم من عقارات وصفقات ومواقع،
ضد الاحتقار والاستخفاف في سلوك العديد ممن هم في موقع المسؤولية، والذي يلمسه المحرومون كلما ضربتهم كارثة من الكوارث…
وهي في المحصلة الأخيرة صرخةٌ ضد جهل مسؤولينا المريع، جهلهم بأن تدبير البلدان والأوطان ليس هو تدبير المقاولات المتوحشة، بل هو أولا وقبل كل شيء تجسيد لاختيارات اجتماعية وقيم أخلاقية تستمد مشروعيتها من ضمان احترام المصلحة العامة أولا وقبل كل شيء، على قدم المساواة، في الشاذة والفادة،
وهي كذلك جرس إنذار للجميع،
بأن السواد الأعظم من طبقتنا السياسية اهترأت وهزل ضرعها وآن أفولها،
في عالم اليوم الذي لم يعد فيه أمان ولا توازن ولا قانون،
في عالم أصبح من الممكن أن ينزلق فيه أي جزء من المعمور – في أي لحظة – إلى حرب ضروس لا تبقي ولا تذر،
في هذا العالم، يجد مسؤولون في حكومتنا الوقت والمزاج للرقص والترويح المبرمج المبثوث على القنوات والمواقع، على مرمى حجر من قبور ضحايا الفيضانات الأخيرة التي لم يجف ترابها بعد…
والعديد من مواطنينا ضحايا زلزال الحوز ما زالوا يقضون لياليهم في الخيام بعد سنة من المأساة…
إنه جرسُ إنذار آخر من شعب وصل صبره مستوى خرافيا، إنذار موجه إلى جمهرة المسؤولين عن السياسات العمومية في كل المستويات…أولئك الذين يندهشون اليوم وهم يرون الأرض تتزلزل تحت أقدامهم من ارتدادات يوم 15 شتنبر…
إننا نعلم والتاريخ يعَلِّم بأن لحظة التحولات المصيرية للبلدان والمجتمعات – كما لحظة الإنذار الأخير – لا تعبر عن نفسها إلا بعد فوات الأوان…
لكن هذا البلد لن يتركهم يعبثون بالحاضر ويرهنون المستقبل،
الرسالة المشفرة لأبنائنا يوم زلزال “الفنيدق” نداءٌ آخر،
نداءٌ أخير…
فهل يتعظ المتعظون…؟
النداء الأخير…
بواسطة صلاح الوديع